توجيهات ياسر قاضي لأحاديث الأحرف السبعة النبوية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

نشر الكاتب الداعية الأمريكي المشهور ياسر قاضي مقالة بعنوان: الأحرف السبعة دراسة في بيان وجاهة القول بالرخصة الإلهية في الأحرف،[1] فتابع فيها ما كان عليه صالح بن سليمان الراجحي في كثير من المسائل والاقتباسات والنتائج، إلا أن للكاتب استنتاجات أشد خطورة من الراجحي وأخطاء منهجية ونقولات تفرد بها تستحق الرد العلمي. والذي يهمنا في هذه المقالة الأولى من هذه السلسلة النظر في الحديث النبوي الذي استشهد به الكاتب وموقفه من الأحاديث التي تعارض نظريته المقدمة المسمى الرخصة الإلهية أو نظرية القراءة بالمعنى ثم الانتقال إلى موقفه مما نُسب إلى الصحابة وأقوال العلماء في طبيعة الأحرف والقراءات في المستقبل إن لزم ذلك.

نظرية القراءة بالمعنى والرخصة الإلهية

فيقول الكاتب أولا: وأطلق بعض العلماء اللاحقين مصطلح (القراءة بالمعنى) لشرح هذا الرأي؛ كما سُمّي أيضًا بنموذج (الرخصة الإلهية)، ووفقًا لهذا الرأي فالحرف الأصلي هو الذي حافَظَ عليه عثمان (أي أنه حافظَ على حرف واحد فقط)؛ ولأنّ الأحرف الأُخرى لم تُتْلَ مِن قِبَل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يكن هناك (إلغاء) أصلًا للأحرف الأخرى بذاتها. بل تمّ سحب التسهيل المتمثّل في القراءة بالمعنى؛ لأنه لم يَعُد هناك حاجة لذلك. ومن ثَم ستُفهم العبارة: (أُنزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحرف)، وفقًا لهذا النموذج؛ على أنها بمعنى: (نزلَ الإِذْنُ الإلهيّ بالترخيص بتلاوة القرآن بعدة صيغ.) ا.ه.

قلت: نسب هذا القول في الهامش إلى الخطابي والقاضي عياض، أي أنهما فهما أن المقصود بـ(سبعة) العدة إذ أن الرقم سبعة يُستخدم أحيانًا للتعبير عن الكثرة.

وهذا الفهم طبعًا يخالف ظاهر الرواية وما نجده في روايات الصحيحين كحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل أستزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف.)[2]

ومنها ما جاء عن أُبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال له: (إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف.)[3]

وأما ما نسب إلى الخطابي والقاضي عياض فقد تم نقضه في مقالة الشيخ وقار أكبر جيمة السابقة بعنوان: معنى (سبعة) في حديث الأحرف السبعة، والذي ذكر فيها أنها جاءت من قِبلهما بصيغة التمريض. كما بيّن الشيخ وقار أن الرقم سبعة لا يُستخدم للإشارة إلى الكثرة، إنما ذاك في السبعين والسبعمائة.

ثم قال الكاتب : لا يوجد كلمة أو عبارة في القرآن قد تُليت بالضبط بسبع طرق، وهذه الحقيقة وحدها ستجبرنا على رؤية كلمة (سبعة) كمؤشر لـ(عدة) بدلًا من (سبعة) حرفيًّا.

قلت: وهذا الاعتراض مردود إذ لم يقل أحد من أهل العلم أن كل كلمة يجب أن تنطق بسبع لهجات أو طرق أو أوجه، إذ كثير من الكلمات العربية ليس لها سوى نطق واحد، فلا حاجة لتكرار التنزيل فيها.

نقد استدلال الكاتب بالحديث النبوي

ومن الغريب أن الكاتب لم يستدل في مقالته إلا بالحديث النبوي الآتي:

(لَيْسَ مِنْهَا -يعني: الأحرف- إِلَّا شَافٍ كَافٍ، إِنْ قُلْتَ: سَمِيعًا عَلِيمًا، عَزِيزًا حَكِيمًا. مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَاب).

ثم قال: (والظاهر أن هذا الأثر، وغيره من الآثار، يُشير إلى وجود مرونة لا يتّسع لها نموذج التَّلقِين.)

قلت: وقوله (نموذج التَّلقِين) هو النظرية أو النموذج الذي يقابل نظرية الرخصة – كما ادعاه الكاتب – وهو مرادف للتلقي.

أما هذا الأثر كما سماه الكاتب، فهو حديث منقطع، فقد قال الإمام أحمد: (لم يسمع قتادة من يحيى بن يعمر شيئًا.)[4] وقال البيهقي: (رواه معمر عن قتادة فأرسله.)[5] فلا يصح الحديث.

ولو سلمنا بصحته فلا يفيد ما أراده الكاتب، إذ المقصود من: (ما لم تختم آية عذاب برحمة) هو الوقف القبيح في القراءة، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في مقالة أخرى. منها ما جاء في سورة البقرة: (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات)، فالوقف هنا قبيح، ويجب على القارئ أن يكمل الآية: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون). وليس في هذه الجملة ما يفيد جواز استبدال الكلمة بمرادفها إذ أن المرادف أضيق بكثير من جواز استبدال جميع الألفاظ سوى الرحمة والعذاب.

وأما قوله: (وغيره من الآثار)، فلم يذكر ياسر آثار نبوية أخرى يستشهد بها.

توجيه حديث اختلاف عمر وهشام في القراءة

ومن التوجيهات العجيبة التي قدمها الكاتب أثناء عرضه للنصوص أنه قال شارحًا لما وقع بين عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم بن حزام: قد تكون تغييرات اللفظ ناتجة عن النسيان، خاصة وأنّ هشامًا كان معتنقًا جديدًا للإسلام. لم يكن هناك درس نبوي خاصّ تمّ منحه لهشام بمعزل عن الصحابة الكبار الآخرين، ومن هنا عندما قال: «هكذا علَّمَني النبي صلى الله عليه وسلم»، لم تكن الإجابة تأكيدًا بـ: (نعم، قد علّمتُك هذه الكلمات)، وإنما: (أُنزِل بهذه الصورة؛ لأن القرآن نزل على سبعة أحرف)، مما يعني في الواقع كأنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ تلاوتَك مُعتمَدة أيضًا مِن قِبَل الله وتُعتبر قرآنًا؛ لأن الله سمح بتلاوة القرآن بعدّة عبارات.)

قلت: وهذا الذي وقع فيه الكاتب هو ما يعيبه على غيره من التكلّف في توجيه العبارات.

يقول عمر رضي الله عنه واصفًا ما جرى بينه وبين هشام رضي الله عنه: (فإذا هو يقرأ سورة على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي – في تفسير الكاتب – : أخطاء كثيرة. ومع أن الكاتب تحفظ عن استخدام كلمة (خطـأ).

ثم يقول هشام رضي الله عنه جازمًا: (أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.)

ثم يقول عمر رضي الله عنه: (فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ)، فهشام هنا متقن لما سمعه، غير متردد وغير شاك فيما يقرأه من (الحروف الكثيرة) التي خالف فيها عمر، وهذا ليس حال من ينسى ويضطرب في حفظه.

فسمع منهما النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد السماع أقر بالقراءتين جميعًا بقوله: (كذلك أُنزلت).[6]

فحرّف الكاتب هذا الحديث، فادعى أن : المقصود بـ(كذلك أُنزلت) – أي: كذلك أُنزل السماح لما قرأته يا عمر. ولا أدري كيف يستقيم هذا لغة وما الحكمة من وصف هذه الرخصة بـ(النزول) ووصفها بـ(سبعة) كما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم، وكان من السهل جدًا أن يقول أن الله تعالى رخص للصحابة الخطأ في ما ينسبون إليه إن لم يكن الخطأ جسيمًا، وهذا مقتضى ما يدعيه الكاتب.

ويقول الكاتب معترضًا: (لم تكن الإجابة تأكيدًا بـ: (نعم، قد علّمتُك هذه الكلمات)).

قلت: بل قوله: (كذلك أُنزلت)، أي: هكذا أنزلها جبريل عليه السلام من الله تعالى أعظم وأبلغ مما عبر به الكاتب ، إذ ينسب النبي صلى الله عليه وسلم القراءة إلى ربه، لكي لا يظن ظان أنها أخطاء وقعت منه صلى الله عليه وسلم.

ويؤيد هذا كله ما رواه أُبي رضي الله عنه بعد اختلافه مع صحابي في قراءة آية، فالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد التنازع يدل على جزمهما بما سمعا منه، إذ الأصل في الشاك تصحيح قراءته، خاصة إن كان من يخطئه أحد كبار الحفاظ كأُبي رضي الله عنه. فذَكر النبي صلى الله عليه وسلم قول جبريل عليه السلام له: (اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: اقرأ القرآن على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف).[7] وهذا التدرج يدل أيضًا على أن العدد حقيقي.

وماذا سيفعل الكاتب بأبي الدرداء رضي الله عنه وقراءته: (والذكر والأنثى)، إذ يقول: (أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم فاه إلى فيّ)، ويقول علقمة في نفس الرواية أن هذه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، فهل كان منشأ هذه القراءة اتفاقهما على النسيان؟[8]

فليذهب الكاتب يمينًا وشمالًا فلن يجد في ظاهر الأحاديث ما يؤيد ما استساغته نفسه.

مناقشة عدم وجود أدلة على تلاوة النبي بطرق مختلفة

ومن أعجب ما يقوله الكاتب: (إنّ واحدة من الحقائق المحيّرة في هذا المجال هي عدم وجود أدلة تفيد بأنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- نفسَه تلا الآية نفسها بطرق مختلفة.)

قلت: إن كان وصفه اختلاف الصحابة في القراءة بالنسيان، فلا غرابة في صرفه النظر عن هذه الروايات الصحيحة التي تثبت ذلك.

نقد منهجية البحث وأسانيده

وفي الختام، على القارئ أن يعلم أن الكاتب لم يبنِ بحثه على أسس متينة، بل يقول معترفًا في الحاشية رقم 15 إنه لم يهتم بتخريج الروايات والاحتجاج بالصحيح منها، بل بنى جزءً من مقالته على الموضوعات وما لا أصل له – كما سنبين في مقالات قادمة – واحتج بما وجده في الكافي للكليني عندما تحدث عن أصل القراءات. وكأن الأحاديث الرئيسة التي أدت إلى إنشاء معتقد أهل السنة في أصل الأحرف والقراءات كانت شوكة في حلق الكاتب.

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


روابط مقالات ذات صلة:

  • الرد على ياسر قاضي فيما افتراه على الصحابة رضوان الله عليهم
  • موقف العلماء من القراءة بالمعنى
  • الرد على أسئلة ياسر قاضي الخمسة عشر
  • الرد على قول ياسر قاضي أن القراءة بالمعنى من الأقوال المعتبرة في تصنيف الأحرف السبعة
  • حكم من أنكر صحة القرآن

المصادر:

تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.

سنن أبي داود، أبو داود السجستاني، دار السلام / الرياض، ط1: 1420هـ.

السنن الكبير، البيهقي، ت: التركي، القاهرة، ط1: 1432هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام / الرياض، ط2: 1419هـ.

المعرفة والتاريخ، الفسوي، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1419هـ.


 الهوامش

  1. رفعت المقالة على موقع تفسير للدراسات القرآنية لمدة قصيرة لا تتجاوز ثلاثة أيام قبل حذفها من قبل مشرفي الموقع. وسنكتفي في الوقت الحالي بهذه المقالة ولن تُرفع المقالات الباقية من ضمن السلسلة إلا في حال رفع الكاتب لمقالته على منصات أخرى.
  2.  صحيح البخاري (3219)
  3. سنن أبي داود (1478)
  4.  المعرفة والتاريخ 2/85
  5. السنن الكبير 4/633
  6. صحيح البخاري (4992)
  7. تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/149-151
  8. صحيح البخاري (3287) و(3761)


Posted

in

by

Tags: