بسم الله الرحمن الرحيم

 

نظرا لتمسك جماعة القراءة بالمعنى بكلام الطحاوي وجعلهم إياه إمامًا لقولهم قررت أن أفرد مقالة أتوسع فيها عما سبق في مقالة موقف العلماء من الأحرف السبعة.  وكان السبب لاختيارهم للطحاوي، إسهابه في معنى الأحرف السبعة على عكس بعض من تقدم إذ أن أكثر ممن نُسب له هذا القول الفاسد لا يتعدى كلامه سطرًا أو سطرين. واستفادوا أيضًا غموض بعض كلامه كما سأبينه قريبًا.

 

ما فهمه أهل العلم من كلام الطحاوي

قبل الشروع في ذكر كلام الطحاوي وتحرير موقفه من الأحرف السبعة أذكر هنا باختصار ما وقفت عليه من أقوال المتقدمين والمتأخرين عن موقفه.

قال القرطبي: وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولًا ذكرها أبو حاتم محمد بن حبان البستي، نذكر منها في هذا الكتاب خمسة أقوال: الأول وهو الذي عليه أكثر أهل العلم كسفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب والطبري  والطحاوي وغيرهم: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتقاربة بألفاظ مختلفة، نحو أقبل وتعال وهلم.[1]

وكلام القرطبي نقله ابن كثير إقرارًا له، وأضاف أن الطحاوي يرى أنها سبع لغات.[2]  

وقال الزركشي عند ذكره لأقوال أهل العلم في الأحرف السبعة:( المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة نحو أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وأنظر وأخر وأمهل ونحوه وكاللغات التي في أُف ونحو ذلك) ثم نسبه إلى الطحاوي.[3]

قلت: وذكرت سابقًا في مقالة أخرى أن المتقدمين الذين سردوا أقوال أهل العلم في معنى الأحرف السبعة لم يذكروا القراءة بالمعنى فيها، كابن حبان الذي ذكر خمسة وثلاثين قولًا وابن الجوزي والسيوطي، فكيف يغفل جميع هؤلاء العلماء عن موقف الطحاوي من الأحرف السبعة؟

 وأما سبب نسبة هذا القول إلى الطحاوي وأن المقصود بالأحرف الأوجه المتقاربة مع اختلاف المعنى، فكان لأنه عبر عن ذلك بكل صراحة، فقال: (وعقلنا بذلك أن السبعة الأحرف التي أعلمهما – يقصد بذلك عمر وهشام بن حكيم بن حزام – أن القرآن نزل بها هي الأحرف التي لا تختلف في أمر، ولا في نهي، ولا في حلال، ولا في حرام، كمثل قول الرجل للرجل: أقبل، وقوله له: تعال، وقوله له: ادن.)[4]

قلت: وهذا الكلام الواضح الذي اطلع عليه أهل العلم مأخوذ من الفصل الذي يستند إليه القائلون بالقراءة بالمعنى، فيستفاد من ذلك أنهم اطلعوا على هذا كلامه ولم يتوصلوا إلى نتيجة الراجحي ومن تبعه.

 

الرخصة التي ذكرها الطحاوي

إن الأصل في نسبة القول بالقراءة بالمعنى إلى الطحاوي يرجع إلى فقرة ذكر فيها الحكمة من نزول الأحرف السبعة، قال: (وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ ما ينزل عليه من القرآن باللسان الذي ذكرنا على أهل ذلك اللسان وعلى من سواهم من الناس من أهل الألسن العربية التي تخالف ذلك اللسان وعلى من سواهم ممن ليس من العرب ممن دخل في دينه كسلمان الفارسي، وكمن سواه ممن صحبه وآمن به وصدقه، وكان أهل لسانه أميين لا يكتبون إلا القليل منهم كتابا ضعيفا ، وكان يشق عليهم حفظ ما يقرؤه عليهم بحروفه التي يقرؤه بها عليهم، ولا يتهيأ لهم كتاب ذلك وتحفظهم إياه لما عليهم في ذلك من المشقة. وإذا كان أهل لسانه في ذلك كما ذكرنا كان من ليس من أهل لسانه من بعد أخذ ذلك عنه بحروفه أوكد ، وكان عذرهم في ذلك أبسط لأن من كان على لغة من اللغات ثم أراد أن يتحول عنها إلى غيرها من اللغات لم يتهيأ ذلك له إلا بالرياضة الشديدة والمشقة الغليظة، وكانوا يحتاجون إلى حفظ ما قد تلاه عليهم صلى الله عليه وسلم مما أنزله الله عز وجل عليه من القرآن ليقرءوه في صلاتهم، وليعلموا به شرائع دينهم، فوسع عليهم في ذلك أن يتلوه بمعانيه، وإن خالفت ألفاظهم التي يتلونه بها ألفاظ نبيهم صلى الله عليه وسلم التي قرأه بها عليهم، فوسع لهم في ذلك بما ذكرنا.)[5]

قلت: هذا هو النص الذي تناقله الراجحي ومن تبعه ممن قال بالقراءة بالمعنى، وحملوا عليه اختلاف  القراء وإن كانت تختلف في المعنى. وكلام الطحاوي لا يحتمل ذلك، بل لا يخرج عن سياق اللغات. فقد كان سبب المشقة: (من كان على لغة من اللغات، ثم أراد أن يتحول عنها إلى غيرها من اللغات لم يتهيأ ذلك له إلا بالرياضة الشديدة)، ويعلم من له أدنى اطلاع على اختلاف القراء أن القراءات المختلفة في المعنى في المئات، فلا علاقة لها بما ذكره الطحاوي هنا.

ولا أظن أن عاقلًا يقول أن كلمة (مَلِك) شديدة على القارئ فرُخص له أن يقرأ بـ(مالِك)، أو أنه لا يستطيع أن يقرأ: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن) كما في قراءة حفص فوسِّع له أن يقرأ (عند الرحمن) كما قرأها نافع. [الزخرف: 19]

والطحاوي كان صريحًا في الكلمات التي كانت تختلف قليلًا في المعنى، وذكر منها: (فتبينوا)[6] و(فتثبتوا)[7] [الحجرات: 6] و(لنثوينهم)[8] و(لنبوئنهم)[9] [العنكبوت: 58] و(ننشرها)[10] و(ننشزها)[11] [البقرة: 259] وهذه جميعها لا علاقة لها باللغات، ثم قال: (احتمل اختلافهم في الألفاظ بهذه الحروف أن يكون أحدهم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها، فأخذها عنه، كما سمعه يقرأ بها، ثم عرض جبريل عليه السلام عليه القرآن فبدل بعضها، ثم قرأ رسول صلى الله عليه وسلم على الناس القراءة التي رد جبريل عليه السلام ما كان يقرأ منها قبل ذلك إلى ما قرأه عليه بعده، فحضر من ذلك قوم من أصحابه، وغاب عنه بعضهم، فقرأ من حضر ذلك ما قرأ من تلك الحروف على القراءة الثانية، ولم يعلم بذلك من حضر القراءة الأولى، وغاب عن القراءة الثانية، فلزم القراءة الأولى.)[12]

ثم قال: (فمثل تلك الحروف التي ذكرناها، وذكرنا اختلافهم فيها من القرآن على هذا المعنى، وكل فريق منهم على ما هو عليه منها محمود، والقراءات كلها فعن الله عز وجل لا يجب تعنيف من قرأ بشيء منها وخالف ما سواه.)[13]

قلت: وهذا ليس كالنوع السابق الذي وصفه الطحاوي بقوله: (السبعة أحرف هي السبعة التي ذكرنا، وأنها لا يختلف معانيها، وإن اختلفت الألفاظ التي يُتلفظ بها، وأن ذلك كان توسعة من الله عز وجل عليهم لضرورتهم إلى ذلك، وحاجتهم إليه، وإن كان الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم إنما نزل بألفاظ واحدة.)[14]

لاحظ:  النوع الأولى هو يتضمن الأحرف السبعة وأنها مخالفة لما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب[15] وأن الحكمة من هذه الرخصة إزالة المشقة.[16] وأما النوع الثاني فلا يصفه بالأحرف السبعة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها كلها، سمعها من جبرئيل عليه السلام وأنها كلها من الله تعالى.

 

ولأبي الليث السمرقندي الحنفي تقريرات قريبة مما توصل إليه الطحاوي إذ  يقول: (إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فإن الله تعالى قال بهما جميعًا، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناها واحد، فالله تعالى قال بإحداهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعًا).[17]

فرأي أبي الليث قريب من رأي الطحاوي إلا أنهما اختلفا في تحديد الأحرف السبعة، فهي عند أبي الليث تشمل جميع أحرف الرخصة والأحرف المختلفة المعنى، وأما الطحاوي فيرى أن الأحرف السبعة هي أحرف الرخصة فقط وأما الأحرف المختلفة المعنى فهي منزلة ولكن لا تندرج تحت السبعة.

 

تدرج الرخصة

يرى الطحاوي أن التوسعة في الرخصة جاءت على فترات، فعندما ذكر حديث سمرة بن جندب قال: (أنزل القرآن على ثلاثة أحرف)، قال: فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان بين إطلاق عدد له من هذه الحروف أن يقرأ القرآن عليه يعلم ذلك الناس، ويخاطبهم به، ليقفوا على ما كان من رحمة الله عز وجل لهم، وتوسعته عليهم فيهما يقرؤون القرآن عليه، فيسمع سمرة منه الحروف التي كان أطلق حينئذ أن يقرأ القرآن عليها وهي يومئذ ثلاثة أحرف لا أكثر منها، ثم مضى ثم أطلق للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن على أكثر من ذلك إلى تتمة سبعة أحرف.[18]

قلت: وهذا النص من أهم ما يُستدل به في الرد على من نسب إلى الطحاوي القول بالقراءة بالمعنى إذ يثبت أن العدد سبعة حقيقي وأن الرخصة توسعت بالتدريج بعد أن نزل القرآن بلغة قريش ثم شملت لغات القبائل الأخرى. هذا ما يستنتج من كلام الطحاوي عندما شرح وضع القبائل مع لغة قريش ويؤيد كلام من تقدم من أهل العلم الذين فهموا من الطحاوي أن الأحرف هي اللغات.

ثم أنه يستحيل أن يكون المقصود من الأحرف السبعة مجاز للكثرة عند الطحاوي بعد أن أثبت التوسع في الرخصة بالتدريج من أحرف ثلاثة إلى سبعة.

 

شاهد آخر

روى الطحاوي عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلًا كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد قرأ البقرة وآل عمران ، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران قد عد فينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه: ‌غفورًا ‌رحيمًا، فيكتب: عليمًا حكيمًا، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب كذا وكذا، فيقول: نعم اكتب كيف شئت ، ويملي عليه: عليمًا حكيمًا، فيقول: أكتب: سميعًا بصيرًا، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب أي ذلك شئت فهو كذلك، فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد، إن كان ليكل الأمر إلي حتى أكتب ما شئت، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الأرض لم تقبله، قال: أنس: فأخبرني أبو طلحة أنه رأى الأرض التي مات بها فوجده منبوذًا، قال: أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: إنا دفناه مرارًا، فلم تقبله الأرض.)

قلت: ثم قال الطحاوي شارحًا لهذا الحديث الذي قد يشعر بجواز القراءة بالمعنى: (الذي في الحديث ليس من ذلك المعنى الذي ذكرناه في ذلك الباب، وذلك أن المعنى الذي ذكرناه في ذلك الباب[19] هو في القرآن لا في غيره، والذي في الحديث الذي ذكرناه في هذا الباب قد يحتمل أن يكون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمليه على ذلك الكاتب من كتبه إلى الناس في دعائه إياهم إلى الله عز وجل، وفي وصفهم له ما هو جل وعز عليه من الأشياء التي كان يأمر ذلك الكاتب بها، ويكتب الكاتب خلافها مما معناها معناها، إذ كانت كلها من صفات الله.)[20]

قلت: فانظر أيها القارئ كيف لجأ الطحاوي إلى هذا التأويل ابتعادًا من القول بالقراءة بالمعنى، وقد تقدم ما بينّا أن الأحرف السبعة عند الطحاوي هو المرخص الذي لا يختلف في معناه. وبما أن هذه الرواية تفيد استبدال أحد الكتاب المعاني من عند نفسه لجأ الطحاوي إلى انكار أن هذا وقع في القرآن.

 

نهاية الرخصة

قال الطحاوي: (وكانت هذه السبعة للناس في هذه الحروف في عجزهم عن أخذ القرآن على غيرها مما لا يقدرون عليه لما قد تقدم ذكرنا له في هذا الباب، وكانوا على ذلك حتى كثر من يكتب منهم، وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.)[21]

قلت: وهذا تأكيد منه أن الرخصة لم تكن إلا بما يتعلق باللغات.

ثم قال: (فقووا بذلك على تحفظ القرآن بألفاظه التي نزل بها، فلم يسعهم حينئذ أن يقرؤوه بخلافها، وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف، إنما كانت، في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك، ثم ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ إلى حرف واحد.)[22]

ثم قال معلقًا على سبب وجود الاختلافات رغم رفع الرخصة أنها وقعت لخلو المصاحف من التنقيط والتشكيل، إلا أن ذلك حجة لأنه من صنيع الصحابة، فلم يُعنف أصحاب القراءات بالرغم من اختلافهم.[23]

 


 

المصادر:

الجامع لأحكام القرآن، القرطبي،  دار عالم الكتب / بيروت، 1428هـ.

فضائل القرآن، ابن كثير، دار المقتبس / بيروت، ط1: 1435هـ.

البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المكتبة العصرية / بيروت، 1435هـ.

تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.

بحر العلوم، أبو الليث السمرقندي، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1413هـ.

 


 

 

[1]  الجامع لأحكام القرآن 1/42

[2]  فضائل القرآن ص54

[3]  البرهان في علوم القرآن 1/157

[4]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/151

[5]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/148-149

[6]  أي: فافحصوا واكشفوا.

[7]  أي: فتأنوا وتوقفوا.

[8]  أي: لنقيمنهم.

[9]  أي: لننزلنهم.

[10]  أي: نحييها.

[11]  أي: نرفعها.

[12]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/165-167.

[13]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/168.

[14]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/154.

[15]  نقل الطحاوي روايات صريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالرخصة أيضًا. انظر: تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/151-152. 

[16]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/148-149

[17]  بحر العلوم 1/419

[18]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/162-163.

[19]  يقصد بذلك: باب مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: أنزل القرآن على سبعة أحرف.

[20]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/168-170

[21]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/155

[22]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/155

[23]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/166-167

 

السؤال:

أحسن الله إليكم، فضيلة الشيخ: هناك من يقول: “ليس كل ما يقرأ به في القراءات العشرة اليوم علمه جبريل – عليه السلام- النبي صلى الله عليه وسلم، *بل مرد أوجه القراءات إلى القراءة بالمعنى* والمرادف وإن لم يكن مسموعا من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن علمه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان مرخصا لهم في ذلك. وذلك أن جبريل – عليه السلام- لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم إلا على حرف واحد لفظًا. وأما الأحرف الأخرى فهي رخصة من الله تعالى أن يقرأ بها الصحابة حسب المعنى أو ما تقتضيه لغتهم وألسنتهم. وأن هذه الأحرف المرخص فيها وجدت سبيلا إلى القراءات العشرة التي يقرأ بها المسلمون ما دامت موافقة للمصاحف العثمانية> ولكن كل ما صح عن القراء العشرة من هذه القراءات – والتي لم يعلمها جبريل النبي صلى الله عليه وسلم- فلها قدسية القرآن؛ لأن الله تعالى هو الذي أذن أن تُقرأ هكذا وهكذا، وتعتبر منزلة من حيث إن الله أنزل الرخصة والإذن بأن تقرأ هكذا وهكذا. وهذا معنى حديث (أنزل القرآن على سبعة أحرف). وأما النصوص التي فيها التصريح بأن الله أنزل القرآن على سبعة أحرف فليس معناها ما يتبادر منها أنه جبريل علمه النبي صلى الله عليه وسلم نصّا ولفظا. فالكلام الذي نزل به جبريل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم – لفظًا ونصّا- وجه واحد فقط، وباقي الأوجه اجتهاد مأذون فيه. واللفظ الذي نزل به جبريل موجود ومحفوظ ضمن القراءات العشرة. فمثلا : قراءة فتبينوا، وقراءة فتثبتوا، أحدهما علمه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر قرئ به بالمعنى أو المرادف وفق “رخصة الأحرف السبعة”. فما حكم هذا القول؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الجواب وبالله التوفيق

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

القراءت العشر التي نقرأ بها اليوم مروية بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رسماً ولفظا،ً وهذا مقطوع به معلوم من الدين بالضرورة لا يخالف في ذلك إلا جاهل كما قرر أهل العلم.

جاء في كتاب (النشر في القراءت العشر)(1/45) فتوى الإمام عبدالوهاب ابن السبكي رحمه الله تعالى:”الحمد لله؛ القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب وقراءة خلف متواترة معلومة من الدين بالضرورة وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يكابر في شيء من ذلك إلا جاهل، وليس تواتر شيء منها مقصورا على من قرأ بالروايات، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ولو كان مع ذلك عاميا جلفا لا يحفظ من القرآن حرفا، ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا يسع هذه الورقة شرحه وحظ كل مسلم وحقه أن يدين لله تعالى ويجزم نفسه بأن ما ذكرناه متواتر معلوم باليقين لا يتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه والله أعلم “.

ومحل اعتبار القراءة المتواترة المتعبد بها اتصالها بلفظها وحرفها من إمام عن إمام إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عن أحد منهم أن الحرف واللفظ المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو واحد فقط، ولكن جوز الشرع أن يقرأ بالمعنى لرفع الحرج بسبب اختلاف لهجات العرب؛ فحصلت حروف أخرى !!!.

جاء في نفس المصدر(1/46): “قال الإمام الأستاذ إسماعيل بن إبراهيم بن محمد القراب في أول كتابه الشافي…. بل طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة لفظا عن لفظ إماما عن إمام إلى أن يتصل بالنبي – صلى الله عليه وسلم – والله أعلم بجميع ذلك”.

حتى إن الجمهور اشترط التواتر فيما كان من قبيل أداء اللفظ لا أصل اللفظ وهذا محله المدود والهمز والإمالة؛ فيكون أصل المد وتنوع زياداته كله ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم متواتر بالنقل عنه، وإنما نازع في ذلك الإمام ابن الحاجب رحمه الله تعالى في الزيادة على أصل أداء اللفظ؛ فهو يقرّ أن أصل المد مثلاً منقول بالتواتر، لكن تنوع الزيادات على أصل المد هو الذي يقع الخلاف فيه وقد ردّ كلامه ونوقش فيه.

جاء في كتاب مناهل العرفان :” لكننا إذا رجعنا لعبارة ابن الحاجب نجدها كما يقول في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ وهذا زعم صريح منه بأن المد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها من قبيل الأداء وأنها غير متواترة. وهذا غير صحيح كما يأتيك نبؤه في مناقشة ابن الجزري له طويلا”.

وعليه؛ فحاصل القول أن القراءات القرآنية العشر ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم رسماً بالرسم العثماني ولفظاً لا يقتصر على أصل أداء اللفظ بل على الزيادات على هيئة أصل اللفظ؛ فعلم أن الادعاء بأن هناك ألفاظ لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن رخص الشرع بها مراعاة لاختلاف لغات العرب ولهجاتها هو زعم باطل. والله تعالى أعلم 

المصدر: موقع دار الإفتاء الأردنية رقم الفتوى 172619

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة

اطلعت على ما ذكره صالح الراجحي وما نسبه إلى أهل العلم من القول بالقراءة بالمعنى ووجدت فيه اضطرابًا، واخراجا للكلام عن سياقه، فكتبت هذه الصفحات في الذب عنهم من هذا الاتهام الشنيع والله المستعان. وإن كانت المقالة السابقة تعرضت لتعريفات العلماء للأحرف السبعة بشكل عام، وفيه بيان عدم علمهم بهذا الرأي الفاسد، إلا أن نرد بالمفصل أشفى للقلوب التي شربت تلك الشبهات.

وقبل الشروع في ذكر ما نسب إليهم، أود أن أنبه القارئ إلى ما توصل إليه الراجحي وما فيه من المفاسد لكي يُعلم أنه ليست مجرد نظرية تُقبل أو تُرد، بل كلامه طعن في المسلمات التي تلزم وتشكيك في حفظ القرآن ونفي إعجازه.

قال الراجحي شارحًا لحديث الأحرف السبعة: (إن الصحابة رضي الله عنهم فهموا منه فورًا التسهيل والتهوين، وأنه رخصة مفتوحة للناس أن يقرؤوا بلهجاتهم وطرائقهم غير متقيدين بالحرف الذي نزل به القرآن، ولذلك فهموه دون سؤال أو استفهام، ولم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعنى والمراد، ولم يفهموا أن جبريل جاء بكل تلك الأحرف، ولذلك لم يقولوا أين هذه الأحرف نريد أن نتعلمها، ولم يسألوا أو يبحثوا عنها، ولم يولوها اهتمامًا كبيرًا.)[1]

وقال شارحًا لهذه الرخصة: (فوجد من جراء هذه الرخصة أنواع من الاختلاف في الألفاظ والمترادفات، والاختلاف في الإعراب، وفي الحروف، والإفراد والتثنية والجمع، والتقديم والتأخير، والزيادة والنقصان، والتذكير والتأنيث، وتصريف الأفعال وغير ذلك.)[2]

قلت: ولا أدري كيف تكون بعض هذه الأصناف من الاختلافات مرادفات…

ولا حاجة لنا لذكر أمثلة منها إذ أن الراجحي يقر بنفسه أن الصحابة قرأوا بقراءات مختلفة في المعنى.

فيقر بأن الآيات التالية مختلفة في المعنى: (لا تُسأل) و(لا تَسأل) [البقرة: 119]، و(تَعْلَمون) و(تُعَلِّمون) [آل عمران: 79]، و(بُشرًا) و(نشرًا) [الأعراف: 57]، و(كُذِبوا) و(كُذِّبوا) [يوسف: 110]، و(مفرَطون) و(مفرِطون) و(مفرِّطون) [النحل: 62]، و(نَتَّخذ) و(نُتَخذ) [الفرقان: 18]، و(سرجًا) و(سراجًا) [الفرقان: 61]، (للعالَمين) و(للعاملِين) [الروم: 22]، (رَبَّنا بَاعِد) و(ربُنا باعَد) [سبأ: 19]، و(عَجِبتَ) و(عَجِبْتُ) [الصافات: 12]، و(عباد الرحمن) و(عند الرحمن) [الزحرف: 19]، (عذابَه) و(وثاقَه) و(عذابُه) و(وثاقُه) [الفجر: 26].[3]

وللأسف الشديد يقر الراجحي أيضًا بأنّا لا نستطيع أن نميّز بين القراءة المنزلة وقراءات الرخصة،[4] فلا أدري كيف يستطيع أن يتبنى القول بحفظ القرآن بعد ذلك.  

وحاول الراجحي أن يقلل من حجم هذه المصيبة بقوله أن هذه الاختلافات في المعنى قليلة، وليست كذلك حقيقة، فهي بالمئات، ويعلم ذلك من له عناية بكتب توجيه القراءات.

ولكي يصل إلى هذه النتيجة، تجاهل الفروقات الواضحة في أمثلة عديدة، فنجده مثلًا يقول أن (مالك) و(ملك) في الفاتحة ملتقيان في المعنى.[5] ولا أدري كيف يستقيم لمسلم أن يظن أن رخصة القراءة بالمترادفات – على حد زعم الراجحي – يشمل إستبدال هذه الكلمات، والله المستعان.

ولبعض أهل العلم كلام في استنكار استبدال الألفاظ بالمترادفات من باب التشهي وأنها تُذهب بإعجاز القرآن، فيقول ابن الأنباري ضاربًا بالفاتحة كمثال على ذلك: (لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها واشتملت على عامتها لجاز أن يقرأ في موضع “الحمد لله رب العالمين”: الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفتريًا على الله عز وجل، كاذبًا على رسوله صلى الله عليه وسلم.) وقال ابن عطية: (ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرضًا أن يبدل هذا وهذا حتى يكون غير الذي نزل من عند الله.)

 فرد الراجحي قائلًا: (والحقيقة أن هذا الذي قاله الأنباري وابن عطية لا يتصور ولا يمكن حصوله، وقد غاب عنهما حقيقة مهمة جدًا، وهي أن القرآن كان يكتب بعد نزوله مباشرة، فهو محفوظ بتلك الكتابة، ولم يختلط بغيره من القراءات القائمة على مجرد الترخص، وهذا الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابته جمع في عهد أبي بكر، ثم انتقل إلى عمر، ثم إلى حفصة بنت عمر، ومنها أخذت فنسخت المصاحف العثمانية، فلم يختلط بها شيء ليس مكتوبًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.)[6]

قلت: يُفهم من ذلك أن الرسم العثماني منع تبديل الألفاظ بالتشهي، ولكن الراجحي أقر فيما سابق بأن هناك كلمات استبدلت واختلفت معانيها وإن كانت داخلة في الرسم العثماني، وأنه لا سبيل لمعرفتنا بالمنزل منها.

وهذه المقدمة المختصرة كافية لبيان فساد قول الراجحي، إذ كان يؤدي لضياع كلام الله تعالى وانتفاء إعجاز كتابه. وهذا الكلام وما شابهه عُرف به أهل الاستشراق، فمن المؤسف أن نراه مرفوعًا في المنتديات الإسلامية في صورة نظرية مقبولة للأخذ والرد.

 

أقوال أهل العلم المتعارضة

ذكر الراجحي مجموعة من العلماء ممن زعم أنهم قالوا بالقراءة بالمعنى وقسّم الفصل إلى سبعة عشر نقطة، مبتدئا بزعمه أن الصحابة أجمعوا على ذلك ومنتهيًا ببعض المعاصرين. وقبل نقض هذه الافتراءات بالترتيب، أود الإشارة إلى النقطة السابعة والثامنة وهي تتضمن موقف ابن حجر وابن الجزري تجاه هذه النظريات لكي يعلم القارئ حقيقة هذه النقولات ولكي يقاس عليها غيرها.

فنقل من ابن الجزري مؤيدًا هذه النظرية التالي: (اجتمعت الأمة المعصومة من الخطأ على ما تضمنته هذه المصاحف وترك ما خالفها من زيادة ونقص وإبدال كلمة بأخرى مما كان مأذونًا فيه توسعة عليهم ولم يثبت عندهم ثبوتًا مستفيضًا أنه من القرآن.)[7]

قلت: وأراد الراجحي بقوله: (مأذونًا فيه توسعة عليهم) أن ما كان مأذونًا لم يكن مما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يقر الراجحي بالتالي: (وابن الجزري وإن كان له أقوال مشهورة تخالف هذا القول إلا أنه هنا صرح بكل وضوح بهذا القول الموافق لما عليه الأولون).[8]

وعند الرجوع إلى كلام ابن الجزري نجده يتكلم عن هذه الرخصة فيقول: (قال الإمام أبو محمد عبد الله بن قتيبة في كتاب “المشكل”: فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرئ كل أمة بلغتهم وما جرى عليه عادتهم فالهذلي يقرأ (عتى حين) يريد (حتى) هكذا يلفظ بها ويستعملها، والأسدي يقرأ (تِعلمون، وتِعلم، وتِسود وجوه، وإلم إعهد إليكم)، والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز، والآخر يقرأ (قيل لهم، وغيض الماء) بإشمام الضم مع الكسر و(بضاعتنا ردت) بإشمام الكسر مع الضم، و(مالك لا تأمنا) بإشمام الضم مع الإدغام، قلت: وهذا يقرأ (عليهم وفيهم) بالضم والآخر يقرأ (عليهمو ومنهمو) بالصلة…)[9]

قلت: وهذا صريح في أن ابن الجزري يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بجميع الأحرف، فأخذها عنه الصحابة. والجمع بين القولين سهل، فابن الجزري يرى أن الإذن المذكور لا يعني جواز القراءة بالتشهي، ولكن يقصد بالإذن السماح بالقراءة بالأحرف الأخرى. ولا أدري كيف يسمح الراجحي نفسه أن يضع ابن الجزري في قائمة القائلين بالقراءة بالمعنى من أجل هذا النص المحتمل للتأويل، خاصة مع وجود ما يكشف عن قصده منه.

ويكفي وصف ابن الجزري جميع ما كتب عثمان رضي الله عنه بأنه قرآن، فهذا يشمل الفروقات الموجودة في المصاحف التي أرسلها إلى الأمصار، فيدل ذلك على أنه يرى أن الله تعالى أنزل أكثر من قراءة.

 

وأما بالنسبة لابن حجر، فنجد الراجحي ينقل عنه ما يؤيد نظريته: (لكن ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له، ومن ثم أنكر عمر على ابن مسعود قراءته (عتى حين) أي (حتى حين) وكتب إليه إن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل.)[10]

ونقل أيضًا عن ابن حجر قولًا مخالفًا: (وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي أي أن كل أحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته بل المراعى في ذلك السماع من النبي صلى الله عليه وسلم.) [11]

قلت: ولا حاجة لنا للجمع بين هذين القولين فابن حجر ما أراد  أن يثبت أن الصحابة قرأوا بالتشهي فعلًا، ولكن قصد بذلك أن هذا ما يُفهم من النص لو لم يوّجه. ثم نقل بعد ذلك أقوال أهل العلم ليبين عدم صواب هذا الاستنتاج. 

 فنقل عن ابن عبد البر قوله: (يحتمل أن يكون هذا من عمر على سبيل الاختيار، لا أن الذي قرأ به ابن مسعود لا يجوز، قال: وإذا أبيحت قراءته على سبعة أوجه أنزلت جاز الاختيار فيما أنزل، قال أبو شامة: ويحتمل أن يكون مراد عمر ثم عثمان بقولهما: “نزل بلسان قريش” أن ذلك كان أول نزوله، ثم إن الله تعالى سهله على الناس فجوز لهم أن يقرؤوه على لغاتهم على أن لا يخرج ذلك عن لغات العرب لكونه بلسان عربي مبين فأما من أراد قراءته من غير العرب فالاختيار له أن يقرأه بلسان قريش لأنه الأولى، وعلى هذا يحمل ما كتب به عمر إلى ابن مسعود لأن جميع اللغات بالنسبة لغير العربي مستوية في التعبير، فإذا لا بد من واحدة، فلتكن بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما العربي فمجبول على لغته فلو كلف قراءته بلغة قريش لعسر عليه التحول مع إباحة الله له أن يقرأه بلغته.)[12]

قلت: يُفهم من كلامه أن ابن مسعود سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من باب التشهي وأن نهي عمر له لم يكن من أجل عدم سماعه.

ولابن حجر أقوال أخرى تدل على مخالفة نظرية القراءة بالمعنى، كقوله: (وكان سبب اختلاف قراءتهما أن عمر حفظ هذه السورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا ثم لم يسمع ما نزل فيها بخلاف ما حفظه وشاهده، ولأن هشامًا من مسلمة الفتح فكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه على ما نزل أخيرًا فنشأ اختلافهما من ذلك.)[13]

ولابن حجر كلام يدل على أن عرضات جبريل تحتوي على أحرف مختلفة وهذا يكفي في إثبات أن القراءة لم تكن بالتشهي في نظره.[14]

وقبل الانتقال إلى الفصل التالي أشير إلى أن الراجحي شديد التسرع في نسبة القول بالقراءة بالمعنى إلى أهل العلم كما ترى، حتى مع وجود ما يعارض ذلك منهم مع إقراره بذلك، ويُستفاد أيضًا أن وصف أهل العلم القراءات بالـ(رخصة) أو بالـ(مأذونة) أو ما شابهها من العبارات لا تدل على قولهم بأن القراءة كانت بالتشهي، والمطلوب ممن ينسب ذلك إليهم النص الصريح الذي لا يحتمل التأويل.

 

أولًا: إجماع الصحابة

ادعى الراجحي أن الصحابة أجمعوا على القراءة بالمترادفات، وهذا غريب مع وقوف الراجحي على الأثر الذي ذكره ابن حجر والذي استدل به الراجحي لترجيح القراءة بالتشهي، وأقصد بذلك الأثر الذي استنكر فيه عمر على ابن مسعود. فلو سلمنا للراجحي أن ابن مسعود قرأها من غير سماع، دل ذلك على أن عمر لا يرضى بذلك، فكيف يدعي الإجماع مع معارضة عمر؟!

واستدل الراجحي على قوله بأن المسألة اتفق عليها الصحابة بقوله: (إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، نعم لم ينصوا عليه بأقوالهم، لكن نصوا عليه بأفعالهم، فاتفاقهم على توحيد القراءة ونفي كل ما خالف المصحف دليل صريح على أنهم يعتقدون ذلك، وهذا أبلغ من أن ينص عليه بعضهم القول.)

قلت: والرد على هذا الكلام بالتفصيل تجده في مقالتي التي تحدثت فيها عن الرسم العثماني.

 

ثانيًا:

نقل الراجحي مجموعة من أقوال المتقدمين حاول أن يسند إليهم القول بنظريته، وذكر منهم يحيى بن سعيد القطان  والشافعي والزهري وأبا عوانة ومالكًا.[15]

 

يحيى بن سعيد القطان:

قال يحيى بن سعيد: (القرآن أعظم حرمة ووسع أن يقرأ على وجوه إذا كان المعنى واحد.)

أخرجه الخطيب في الكفاية، وهذا الكلام ذكره في باب ذكر من كان يذهب إلى إجازة الرواية على المعنى – أي: رواية الحديث. ثم روى عن يحيى ردة فعله عندما وجد من يتشكك في ألفاظ الحديث، فقال: (ليس في يد الناس أشرف ولا أجل من كتاب الله تعالى، وقد رخص فيه على سبعة أحرف.)[16]

قلت: يريد يحيى أن كثير من القراءات نزلت بمعنى واحد، وهذا صحيح. فالقراءات التي لها اختلافات تأثر على المعنى تبلغ ما يقارب أربعمائة وخمسة عشر،[17] ولكن القراءات التي تتعلق باختلاف اللهجات أكثر منها. وإذا علمنا ذلك فهمنا أن يحيى يقصد أن كثير من القراءات نزلت بمعنى واحد، ولا يقصد كلها، وأن الله تعالى أذن للناس القراءة بذلك، فمن الأولى رواية الحديث بالمعنى. 

ولعل القارئ يتأمل في تبويب المتقدمين لمسائل رواية الحديث بالمعنى واللفظ والاختلاف في ذلك، فهذا معروف فيهم، ولكن لا نجدهم يخوضون في رواية القرآن بالمعنى والتشهي في القراءة إذ لا يُعرف هذا القول في أحد منهم.

 

الشافعي:

قال الشافعي: (أنزل الله كتابه على سبعة أحرف معرفة منه بأن الحفظ قد يزل ليحل لهم قراءته وإن اختلف اللفظ فيه ما لم يكن في اختلافهم إحالة معنى.)

قلت: ما ذكره الشافعي قريب مما قاله يحيى بن سعيد، فراجعه، إلا أن كلامه كان في سياق ذكره لاختلاف الصحابة في التشهد، فذكر القراءات لكي يقرب للقارئ فكرة اختلاف الناس في ألفاظهم المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره في موضعين، في كتاب الرسالة وكتاب اختلاف الحديث، كلاهما في أثناء الكلام عن التشهد. فالشافعي ليس له فصل في كتاب من كتبه يتكلم فيه عن القراءة بالمعنى.

وعندما ذكر اختلاف الصحابة في صيغة التشهد، قال: (واحتمل أن تكون كلها ثابتة، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الجماعة والمنفردين التشهد، فيحفظ أحدهم على لفظ ويحفظ الآخر على لفظ يخالفه.)[18]

قلت: وهذا ما وقع في القراءات، فيستشهد الشافعي بحديث عمر وهشام بن حكيم رضي الله عنهما، فأقر القراءتين ووصفهما بأنهما منزلتان.[19]

ويقول الشافعي أيضًا: (وليس لأحد أن يعمد أن يكف عن قراءة حرف من القرآن إلا بنسيان، وهذا في التشهد وفي جميع الذكر أخف.)[20]

وتشهبيه الشافعي القراءة بالقرآن ورد من الصحابة من قبله وقد رواه الشافعي بإسناده عن ابن عباس أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن.)[21]

وقد ذكر الأسود أن عبد الله بن مسعود كان يعلمهم التشهد (كما يعلمنا السورة من القرآن، يأخذ علينا الألف والواو.)[22]

وموقف الشافعي من التشهد هو كموقف أحمد إلا أنهما اختلفا في الاختيار، فكان الشافعي قال بتشهد ابن عباس بينما اختار أحمد تشهد عبد الله. قال أحمد: (تشهد عبد الله أعجب إلي، وإن تشهد بغيره فهو جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه مختلفًا دل على جواز الجميع، كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف.)[23]

وأضيف أيضًا أن للشافعي رحمه الله شرط في رواية الحديث بالمعنى: (إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام.)[24]

قلت: فهل يُعقل أن الشافعي يسمح للعوام، وهم الذين نزلت الأحرف السبعة تسهيلًا لهم، أن يقرأوا القرآن بالمعنى وهو يمنع ذلك في الحديث؟

وفضلًا عن ذلك، فإن القراءة بالمعنى لا تتوافق مع آراء الإمام الشافعي بأن القرآن غير مخلوق. ناظر الشافعي خصومه في هذه المسألة، بل إن له تصريحات يكفر فيها من يزعم ذلك.[25]  فإن مثل هذا الاعتقاد لا يمكن التوفيق بينه وبين اعتقاد الراجحي بأنه حتى الكلمات البشرية المخلوقة التي تم تقديمها من خلال القراءة بالمعنى تعتبر قرآنًا. ومن المستحيل أن يعتقد الشافعي وأي عالم آخر من علماء أهل السنة أن القراءات الاجتهادية مع إدراج مرادفاتها يمكن أن تُعتبر غير مخلوقة لأن ذلك يؤدي إلى تشبيه كلامهم بكلام الله تعالى من حيث أزليته.

ويضاف على جميع ذلك أن الشافعي كان يعتبر القراءة الشاذة قرآنًا، قال معلقًا على قراءة (لقبل عدتهن): (فبينٌ – والله أعلم – في كتاب الله عز وجل بدلالة سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن والسنة في المرأة المدخول بها التي تحيض دون من سواها من المطلقات: أن تطلق لقبل عدتها.)[26]

ولا زلت متعجبًا ممن نسب هذا القول إلى الشافعي وغفل عنه كبار الشافعية كابن حبان السيوطي عندما سردوا أقوال العلماء في معنى الأحرف السبعة.

 

 الزهري:

قال الزهري عندما سئل عن التقديم والتأخير في الحديث: (إن هذا يجوز في القرآن فكيف في الحديث.)

قلت: وهذا قريب مما ورد عن يحيى بن سعيد القطان، ويقصد به الزهري أن الله تعالى أنزل القرآن ورخص التقديم والتأخير في مواضع قليلة، منها: (وجاءت سكرة الموت بالحق) و(وجاءت سكرة الحق بالموت) [الفرقان: 19]، فيجوز في رأيه رواية الحديث مع التقديم والتأخير إن لم يخل ذلك بالمعنى.

والتقديم والتأخير لو ثبت بالتشهي لوجدنا المئات من الأمثلة منها في قراءات الصحابة والتابعين، ولا يكاد يصح منها شيء، فدل ذلك على أن التقديم والتأخير ما كان إلا بالسماع عن النبي صلى الله عليه وسلم.

 

أبو عوانة:

بوب أبو عوانة بعنوان: (باب بيان السعة في قراءة القرآن إذا لم يخل المعنى ولم يختلف في الحلال والحرام وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي بكل حرف مسألة يسألها.)

قلت: ثم ذكر أبو عوانة أحاديث تدل على تبويبه، فذكر عن الزهري قوله: (بلغني أن تلك السبعة أحرف إنما يكون في الأمر الذي يكون واحدًا لا يختلف في الحلال والحرام)،[27] فهذا مقصده بقوله: (إذا لم يخل بالمعنى ولم يختلف في الحلال والحرام).

وروى من حديث أُبي أن الله تعالى أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن: (اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة تسألنيها)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الرابعة إلى يوم يحتاج إليّ فيه الخلق حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.)[28]

ولكن هل فهم أبو عوانة أن هذه الرخصة على إطلاقه وأنه يجوز القراءة بالمترادفات من غير سماع؟ وإن الرجوع إلى أحاديث الباب تدل على أن القراءة لم تكن إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، فنجده ينقل من هشام بن حكيم أنه قال: (أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فرد عليه عمر: (كذبت، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أقرأني هذا السورة التي سمعتك تقرأها.)[29]

وروى أيضًا حديث أُبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم هو بأضاة بني غفار، فقال: إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن على حرف… إن ربك يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين… إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف… إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف)،[30] فثبت بذلك أن القراءة كانت بالتلقي.

وليس في الباب ما يدل على أن القراءة كانت بالتشهي إلا حديث أنس الذي فيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أملى على كاتب (سميعًا عليمًا) فكتب (سميعًا بصيرًا) أو أملى عليه (عليمًا حكيمًا( فكتب (عليمًا حليمًا) قال: دعه.)

قلت: وهذا الحديث لا يعارض الذي قبله، فيجوز أن تكون الآية نزلت بالقراءتين: (عليمًا حكيمًا) و(عليمًا حليمًا)، فكتب الكاتب بما شاء، ولا علاقة لهذا بالقراءة بالمعنى إذ ليس (حكيمًا) و(حليمًا) في معنى سواء.

وهذا موقف جماعة من أهل العلم باتجاه هذا الحديث كالزهري والطبري والبيهقي وقوام السنة والقاضي عياض وابن تيمية وابن بلبان،[31] فمجرد ذكر أبو عوانة للحديث في الفصل لا يدل على قبوله للقراءة بالمعنى.

 

مالك:

قال مالك عندما سُئل عن قراءة عمر (فامضوا إلى ذكر الله): ذلك جائز لا أرى باختلافهم في مثل هذا بأسًا.[32]

قلت: قد قرأها أُبي وابن عمر وعبد الله بن مسعود، فالظاهر أنها من الأحرف المنزلة، ونقل إبراهيم النخعي عن ابن مسعود: (لو كانت (فاسعوا) لسعيت حتى سقط ردائي)،[33] فابن مسعود لم يقر بقراءة (فاسعوا).

وسئل مالك عن قراءة عبد الله (إن شجرة الزقوم طعام الفاجر): أترى أن يقرأ كذلك؟ قال: نعم أرى ذلك واسعًا.[34]

قلت: وهذا كالذي سبقه، فهناك من قال بأن هذا اللفظ منزل كالباقلاني.[35] والذي حملهم على ذلك فيما يبدو وجود روايات أخرى صحيحة عن أبي الدرداء بمثل هذا المعنى، فيها قراءته بـ(طعام الفاجر)،[36] فدل ذلك عندهم على ثبوت القراءة عن أكثر من صحابي، فيبعد كونه مما قُرئ بالمعنى.

ومذهب الإمام مالك في القراءة معروف، وهو أن القراءة بالتلقي وإن لم يختلف في ذلك المعنى، فقيل له: (لم قرأتم في ص (وليْ نعجة واحدة) [ص: 23] موقوفة الياء، وقرأتم في قل يا أيها الكافرون (وليَ) [الكافرون: 6]، فقال: يا أهل الكوفة لم يبق لكم من العلم إلا كيف ولم، القراءة سنة تؤخذ من أفواه الرجال، فكن متبعًا ولا تكن مبتدعًا.)

وقيل له أيضًا: (كيف قرأتم في سورة سليمان (ما ليْ لا أرى الهدهد) [النمل: 20] مرسلة الياء، وقرأتم في سورة يس (وما ليَ لا أعبد) [يس: 22] منتصبة الياء؟ قال: فذكر مالك كلامًا ثم قال: لا تدخل على كلام ربنا لم وكيف، وإنما هو سماع وتلقين، أصاغر عن أكابر، والسلام.) [37]

فهذا مذهب مالك في القراءة، وأما مذهبه في معنى الأحرف السبعة فالمقصود بها الاختلاف الواقع في القرآن من سبعة أوجه: الجمع والتوحيد، والتذكير والتأنيث، والإعراب، والتصريف، والأدوات التي يتغير الإعراب لتغيرها، واللغات كالهمز وتركه والفتح والكسر والإمالة والفتخيم، وتغيير اللفظ والنقط بإتفاق الخط، هذا ما نسبه إليه شيخ القراء أبو العلاء الهمداني.[38]

 

ثالثًا: الطحاوي

راجع مقالتنا في موقف الطحاوي من الأحرف السبعة.

 

رابعًا: أبو شامة

نقل الراجحي من أبي شامة التالي: (قال أبو شامة في “المرشد الوجيز” ص(139): اختار الصحابة رضي الله عنهم الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته وترك الباقي للخوف من غائله، المهجور هو ما لم يثبت إنزاله، بل هو من الضرب المأذون فيه بحسب ما خف وجرى على ألستنهم.)[39]

قلت: ليس في كلام أبي شامة ما يشعر أنه يرى أن القراءة بالتشهي، فهو يرى أن هناك حرفًا واحدًا أُمر بكتابته، وهناك ما لم يؤمر بكتابته وكان مما ووافق اللهجات الأخرى، كـ(عتى حين) و(زقية)، وهي القراءات الأخرى غير حرف قريش.

وفي نفس الصفحة قول أبي شامة: (وما اختلفت فيه المصاحف حذفًا وإثباتًا، نحو (من تحتها) (هو الغني)، (فبما كسبت) فمحمول على أنه نزل بالأمرين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته على الصورتين لشخصين أو في مجلسين، أو أعلم بهما شخصًا واحدًا وأمره بإثباتهما.)[40] فهذا صريح بأن أبا شامة يرى أن الأحرف كانت مما تلقته الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم.

ولمعرفة موقف أبي شامة من الأحرف، أحيل إلى ما نقله من كلام القاسم بن حسان الذي وصفه بأنه (كلامًا كثيرًا شافيًا) وذكر استحسان ابن عبد البر له. قال القاسم: (إن الله تبارك وتعالى بعث نبيه صلى الله عليه وسلم والعرب متناؤون في المحال والمقامات، متباينون في كثير من الألفاظ واللغات، ولكل عمارة لغة دلت بها ألسنتهم، وفحوى قد جرى عليها عادتهم، وفيهم الكبير العاسي والأعرابي القح، ومن لو رام نفي عادته وحمل لسانه على غير ذريته تكلف منه حملًا ثقيلًا، وعالج منه عبئًا شديدًا، ثم لم يكسر غربه ولم يملك استمراره إلا بعد التمرين الشديد، والمساجلة الطويلة، فأسقط عنهم تبارك وتعالى هذه المحنة، وأباح لهم القراءة على لغاتهم، وحمل حروفه على عاداتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئهم بما يفقهون، ويخاطبهم بالذي يستعملون بما طوقه الله من ذلك، وشرح به صدره، وفتق به لسانه، وفضله على جميع خلقه.)[41]

وقال أبو شامة: (إن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع من هذا على قدر ما رووا، وأن ذلك المتلقن له من النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الوجه أقرأه غيره كما سمع، ثم من بعده كذلك إلى أن اتصل بالسبعة.)[42]

وكان أبو شامة يرى تواتر القراءات إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال في إبراز المعاني: (لكن الأهم أولا إتقان حفظه، وتقويم لفظه، ولا يحصل ذلك إلا بعد الإحاطة بما صح من قراءاته وثبت من رواياته، ليعلم بأي لفظ يقرأ، وعلى أي وجه يروى. والقرآن كلام الله منقول نقل التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.)[43]

ونقل عن أبي نصر القشيري كلامه في الرد على من أنكر قراءة (والأرحام) بالخفض، قال: (ومثل هذا الكلام المردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا يعرفه أهل الصنعة وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم واستقبح ما قرأ به.) ثم قال أبو شامة: (وهذا كلام حسن صحيح)، مصححًا كلتا القراءتين.[44]

ويضاف إلى ما سبق أن أبا شامة يرى أن الأحرف سبعة حقيقةً، إذ يقول: (وإنما الشأن أن يكون في الكلمة الواحدة سبعة أوجه فهذا الذي عز وجوده فعد من ذلك ألفاظ يسيرة نحو (أف) و(عذاب بئيس) وليس كل الوجوه فيها من القراءات المشهورة بل بعضها من القراءات الشاذة إلا أنها من جملة اللغات والألفاظ المترادفة التي كانت القراءة قد أبيحت عليها، وقد تقدم أن معنى الحديث أن كلمات القرآن أبيح أن يقرأ كل كلمة منها على ما يحتمله من وجهين وثلاثة إلى سبعة، توسعة على الناس على قدر ما يخف على ألسنتهم.)[45]

قلت: ومن كان يرى أن الرقم سبعة حقيقي فليس له أن يقول إلا أن الأحرف تُلقيت من النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا يستقيم حصر الأحرف في سبعة أوجه لو كان للناس استبدال الألفاظ من تلقاء أنفسهم، إلا لو قال أحدهم بأن للشخص الواحد استبدال الكلمة بسبع مرادفات ولا أدري ما الحكمة من ذلك ولا أظنه يُعتبر من التسهيل.  

 

خامسًا: ابن التين  وغيره

قال الراجحي: (قال ابن التين وغيره كما في “فتح الباري” (9/21): “جمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد، واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش، محتجًا بأنه نزل بلغتهم، وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعًا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت.”)[46]

قلت: ليس فيه ما يدل على تجويزهم للقراءة بالمترادفات من تلقاء أنفسهم، وليس فيه إلا أن القراءة وسعت للناس رفعًا للحرج والمشقة، وهذا لا يعارض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الصحابة بالأحرف جميعها، وقد أقر الراجحي بأن هناك من جمع بين القولين من أهل العلم، فلا ينبغي نسبة القراءة بالتشهي لابن التين بناء على هذه الفقرة.[47]

 

سادسًا: طائفة ذكرها ابن خالويه

قال الراجحي: (ذكر ابن خالويه في كتابه “إعراب القراءات السبع وعللها” (1/18) أن طائفة قالت: نزل القرآن بلغة قريش، وبحرف واحد ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم تسهيلًا على أمته أن يقرأ كل قوم بلغتهم.)[48]

قلت: ليس في هذا ما يدل على القراءة بالتشهي من تلقاء نفس القارئ بل سياق الكلام يدل على النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقرئهم بلغتهم، فالذي ذكره ابن خالويه هو في الرد على السؤال التالي: (فإن سأل سائل، فقال: أهذه الحروف نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاختلاف والوجوه، أم نزلت بحرف واحد، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم باللغات؟)[49]

قلت: فيُفهم من هذا أن ابن خالويه يقصد أن القول الثاني كان بالتلقي أيضًا إلا أنه ليس بمنزل.

 

سابعًا: ابن الجزري

تقدم.

 

ثامنًا: ابن حجر

تقدم.

 

تاسعًا: أبو الليث السمرقندي

نقل الراجحي ما ذكره الزركشي في البرهان عن أبي الليث السمرقندي من غير الرجوع إلى كتابه، والذي فيه التالي: (اختلف الناس في الآيات التي قرأت بقراءتين، وقال بعضهم: إن الله عز وجل قال بهما جميعًا، والذي صح عندنا والله أعلم أنه لو كان لكل قراءة تفسير بخلاف تفسير قراءة أخرى فقال بهما جميعًا فصارت قراءتين بمنزلة آيتين، مثل قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) [البقرة: 222]، فمعنى الأول حتى ينقطع دمهن ومعنى الثاني حتى يغتسلن، وكذلك كل ما كان على نحو هذا، وأما إذا كانت القراءتان تفسيرهما واحد، وهو مثل البِيوت والبُيوت والمحصَنات والمحصِنات بالنصب والخفض فإنما قال بإحداهما وأجازنا القراءة بهما لكل قبيلة على ما تعود لسانهم.)[50]

قلت: ليس في كلام أبي الليث ما يدل على أنه يرى أن الصحابة قرأوا بالتشهي، ولكن الكلام يدور حول ما قال به الله تبارك وتعالى. فظاهر كلامه أنه تعالى قرأ بواحدة وأجاز القراءة بالقراءة الأخرى. 

وقال السمرقندي شارحًا لاختلاف القراء في آية الوضوء: (إن كان لكل قراءة معنى غير المعنى الآخر، فإن الله تعالى قال بهما جميعًا، وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين، وإن كانت القراءتان معناها واحد، فالله تعالى قال بإحداهما، ولكنه رخص بأن يقرأ بهما جميعًا.)[51]

 

عاشرًا: ابن جني

قال الراجحي: (استدل أبو الفتح ابن جني في “المحتسب” بالقراءات الواردة عن أنس رضي الله عنه على جواز القراءة بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا.

فذكر ما ورد عن أنس رضي الله عنه أنه يقرأ: “لولوا إليه وهم يجمزون”، قيل له: وما يجمزون؟ إنما هي “يجمحون”، فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.

قال أبو الفتح في “المحتسب” (1/295): ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرءون الحرف مكان نظيره من غير أن تتقدم القراءة بذلك، لكنه لموافقته صاحبه في المعنى.)

قلت: مع كونه ظاهر الرواية – ولم تصح أصلًا – إلا أن ابن جني يثبت سماع جميعها من النبي صلى الله عليه وسلم! وإن عدم ذكر الراجحي لكلام ابن جني هنا يُعتبر خيانة علمية إن كان قصد بتر الكلام من السياق والله المستعان. فيقول: (حسن الظن بأنس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة التي هي (يجمحون) و(يجمزون) و(يشتدون)، فيقول: اقرأ بأيها شئت، فجميعها قراءة مسموعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله عليه السلام: نزل القرآن بسبعة أحرف كلها شاف كاف.)[52]

ولو ثبت هذا من أنس لكان تحريف منه للقرآن عند ابن جني. قال: (وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى، قال: كان يحضر ابن الأعرابي شيخ من أهل مجلسه فسمعه يومًا ينشد:

وموضع زبن لا أريد براحه                               كأني به من شدة الروع آنس

فقال له الشيخ: ليس هكذا أنشدتنا يا أبا عبيد الله. فقال: كيف أنشدتك؟ فقال له: وموضع ضيق. فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا سنة ولا تعلم أن الزبن والضيق شيء واحد؟

فهذا لعمري شائع لأنه شعر وتحريفه جائز، لأنه ليس دينًا ولا عملًا مسنونًا.)[53]

ولو رجع الراجحي إلى خطبة الكتاب لعلم أن ابن جني يرى بأن كثير من الشاذ ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتب من تجنب هذه القراءات، ويقول: (فإنا نعتقد قوة هذا المسمى: شاذا، وأنه مما أمر الله تعالى بتقبله وأراد منا العمل بموجبه وأنه حبيب إليه، ومرضي من القول لديه.)[54]

ثم استدل الراجحي بالتالي: (ومن ذلك ما حدثنا عباس الدوري عن أبي يحيى الحماني عن الأعمش عن أنس أنه قرأ: (وأقوم قيلا) و(أصوب)، فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: (وأقوم قيلًا)، فقال أنس: إن أقوم وأصوب وأهيأ واحد.

قال أبو الفتح: هذا يؤنس بأن القوم كان يعتبرون المعاني ويخلدون إليها، فإذا حصلوها وحصنوها سامحوا أنفسهم في العبارات عنها.)[55]

قلت: قول ابن الجني: (هذا يؤنس…)، يدل على أن هذا هو ظاهر الأثر عن أنس، ولكن لا يرى أن هذا هو واقع الأمر كما أشرت سابقًا، فحسن ظنه بأنس يمنعه من أن يتهمه بالقراءة بالمعنى، وهذا هو حال ابن جني مع جميع سلفه إذ نجده ينفي القراءة من غير تلقي عن قتادة[56] والأعمش[57] أيضًا.

 

الحادي عشر: ابن عاشور وغيره من المعاصرين

قال الراجحي: قال الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير” (1/55): “لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مرادًا لله تعالى ليقرأ القراء بوجوه فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزئًا عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مستتبعات التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملائمة بلاغة القرآن.”

قلت: ليس في كلام ابن عاشور ما يدل على القراءة بالمعنى، ولكن لو سلمنا بذلك أنه يقصد أن القراءة كانت بالتشهي هنا، فهو لا يقر به، ولكن يورده كاحتمال، فنجد عند مراجعة السياق التالي: (والظن أن الوحي نزل بالوجهين وأكثر، تكثيرًا للمعاني إذا جزمنا أن جميع الوجوه في القراءات المشهورة هي مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه لا مانع…)[58]

ومن الناحية التطبيقية، نجد ابن عاشور يصحح جميع المتواتر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن خالف خط المصحف. فيقول بعد ذكره لاختلاف القراء لـ(بضنين) و(بظنين): (وذكر في الكشاف أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى تنبيه، لأن القراءتين ما كانتا متواترتين إلا وقد رويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم… ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواترًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر.)[59]

ثم قال الراجحي: وقال ابن عاشور أيضًا عندما ذكر قراءة حمزة وخلف (بمصرخي) بكسر الياء: “والذي ظهر لي أن هذه القراءة قرأ بها بنو يربوع من تميم، وبنو عجل ابن لجيم من بكر بن وائل، فقرؤوا بلهجتهم أخذًا بالرخصة للقبائل أن يقرؤوا القرآن بلهجاتهم، وهي الرخصة التي أشار إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه.)[60]

قلت: لم يأت الراجحي شيئًا هنا، فابن عاشور صحح القراءة وهي متواترة عنده، ويقول بأن القراءات المتواترة جميعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فكونها قراءة قبيلة من القبائل لا يعني أنه لم يقرئهم بها.

ثم نقل الراجحي بعض النقولات من المعاصرين مما يدل على أنهم يرون أن الصحابة قرأوا بالمرادفات، وممن تيسر الوصول إليهم الشيخ عبد الهادي حميتو، وقد غضب عندما سمع أن هناك من ينسب هذا إليه، وقال بأن هذا كذب عليه وأن هذا القول هو طعن في القرآن، وأشار إلى كتابه (كشف القناع) فأن فيه ردود على من شكك في نسبة القراءات إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرني بذلك الأستاذ عبد البر بن حسن المالكي.

وممن تواصلنا معه أيضًا الدكتور غانم قدوري الحمد، ونفى أنه يقول بذلك أيضًا، أفادني بذلك الشيخ ساجد عمر.

فكيف نطمئن لما ينسبه الراجحي للمتقدمين عندما نجده يخطئ فيما نسبه إلى المعاصرين؟

 

وفي الختام أود أن أحث القارئ الكريم أن يتريث عند الوقوف على نظريات تخالف المسلمات، وبالرجوع إلى المصادر التي نقل عنها المؤلف حيث نجد ما يخالف ما نسبه إليهم…

والحمد لله رب العالمين.

 


 

المراجع

إبراز المعاني في حرز الأماني، أبو شامة، دار الكتب العلمية، بيروت.

اختلاف الحديث، الشافعي، مؤسسة الكتب الثقافية / بيروت، ط1: 1405هـ.

إعراب القراءات، ابن خالويه، ت: عبد الرحمن العثيمين، مكتبة الخانجي / القاهرة، ط1: 1413هـ.

الأم، الشافعي، دار ابن حزم / بيروت، ط1: 1426هـ.

الانتصار، الباقلاني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1433هـ.

بحر العلوم، أبو الليث السمرقندي، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1413هـ.

بستان العارفين، أبو الليث السمرقندي، دار الفاروق / دلهي.

التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون / تونس.

تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.

جامع البيان في القراءات السبع، الداني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1426هـ.

جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1412هـ.

الرسائل والمسائل العقدية المنسوبة للإمام الشافعي، مهنا سالم مرعي، مركز تكوين / لندن، ط1: 1438هـ.

الرسالة، الشافعي، دار الآثار / القاهرة، ط1: 1429هـ.

السنن الكبير، البيهقي، ت: التركي، القاهرة، ط1: 1432هـ.

فتح الباري، ابن حجر، دار السلام / الرياض، ط1: 1421هـ.

فضائل القرآن، القاسم بن سلام، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1411هـ.

الكفاية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس / سمنود، 2002م.

متن العقيدة الطحاوية، أبو جعفر الطحاوي، دار ابن حزم / بيروت، ط1: 1416هـ.

المحتسب، ابن جني، دار سزكين، ط2: 1403هـ

المرشد الوجيز، أبو شامة المقدسي، مكتبة الذهبي / الكويت، 1413هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

المسند الصحيح المستخرج على صحيح مسلم، أبو عوانة الإسفراييني، الجامعة الإسلامية / المدينة المنورة، ط1: 1435هـ.

مصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر ابن أبي شيبة، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1416هـ.

المغني، ابن قدامة، دار عالم الكتب / الرياض، 1997م.

النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، دار الكتب العلمية / بيروت، 2011م.


 

[1]  المسائل الكبرى ص 437

[2]  المسائل الكبرى ص 157-158

[3]  المسائل الكبرى ص 130-133

[4]  المسائل الكبرى ص 237

[5]  المسائل الكبرى ص 115

[6]  المسائل الكبرى ص 171-172

[7]  المسائل الكبرى ص 178

[8]  المسائل الكبرى ص 178

[9]  النشر 1/25

[10]  المسائل الكبرى ص 179

[11]  المسائل الكبرى ص 178

[12]  فتح الباري 9/35

[13]  فتح الباري 9/33

[14]  فتح الباري 9/56

[15]  المسائل الكبرى ص 174

[16]  الكفاية 2/25

[17]  هذا العدد الذي وقف عليه الشيخ فاضل سليمان من خلال عمله على ترجمة القراءات إلى اللغة الإنكليزية. 

[18]  اختلاف الحديث ص71

[19]  الرسالة ص287

[20]  اختلاف الحديث 71-72

[21]  اختلاف الحديث ص 70

[22]  مصنف ابن أبي شيبة 1/262

[23]  المغني 2/222

[24]  الرسالة ص357

[25]  ينظر: الرسائل والمسائل العقدية المنسوبة للإمام الشافعي ص242-247، وص500-504.

[26]  الأم 2/1934.

[27]  المسند الصحيح المستخرج على صحيح مسلم 11/73

[28]  المسند الصحيح المستخرج على صحيح مسلم 11/71

[29]  المسند الصحيح المستخرج على صحيح مسلم 11/75

[30]  المسند الصحيح المستخرج على صحيح مسلم 11/68-69.

[31]   الدعاوى في خبر ردة كاتبي القرآن عرض ونقص، محمد عبد الرحمن الطاسان، مجلة العلوم الشرعية ، جامعة القصيم، المجلد 15، العدد 2، ص566-567.

[32]  المسائل الكبرى ص 174

[33]  فضائل القرآن ص186

[34] المسائل الكبرى ص 153

[35]  الانتصار ص325.

[36]  جامع البيان في تفسير القرآن 11/243

[37]  جامع البيان في القراءات السبع المشهورة  ص42

[38]  كما في المرشد الوجيز لأبي شامة ص285-289.

[39]  المسائل الكبرى ص 176

[40]  المرشد الوجيز ص 324

[41]  المرشد الوجيز ص 307

[42]  المرشد الوجيز ص 370

[43]  إبراز المعاني ص3

[44]  إبراز المعاني ص412

[45]  المرشد الوجيز ص303

[46]  المسائل الكبرى ص177

[47]  المسائل الكبرى ص165

[48]  المسائل الكبرى ص177

[49]  إعراب القراءات 1/18

[50]  بستان العارفين ص74-75

[51]  بحر العلوم 1/419

[52]  المحتسب 1/296

[53]  المحتسب 1/297-298

[54]  المحتسب 1/33

[55]  المحتسب 2/336

[56]  المحتسب 1/84

[57]  المحتسب 1/85

[58]  التحرير والتنوير 1/55

[59]  التحرير والتنوير 30/161

[60]  المسائل الكبرى ص182

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

استدل صالح الراجحي بعشرة أدلة استنتج منها أن الصحابة قرأوا القرآن بالمعنى…

 

الدليل الأول

استدل الراجحي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني بعثت إلى أمة أميين، فيهم الشيخ العاسي والعجوزة الكبيرة والغلام، قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف.) ثم قال: (واضح جدًا أنه رخصة مفتوحة لأولئك الشيوخ والعجائز والغلمان والذين لم يقرؤوا كتابًا قط أن يقرؤوا دون أن يتلقوا ذلك ويعلموه.)[1]

قلت: لو كان الأمر واضحًا كما يقول الراجحي فلماذا نجد الأئمة يصرحون بأن القراءات جميعها منزلة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بجميعها؟ وهذا حقيقة يقر بها الراجحي.[2]

ثم انظر إلى كيفية وصول هذه الأحرف إلينا، هل وصلتنا من أفواه الشيوخ والعجائز والغلمان، أم وصلتنا من أفواه قرّاء الصحابة كابن مسعود وأُبي وزيد؟ فهل كان هؤلاء يحتاجون إلى الرخصة لأنهم (لم يعتادوا الدرس والتكرير وحفظ شيء على لفظه مع كبر سنهم، واشتغالهم بالمعاش وأمور الحياة) ؟فهذا كان وصف الراجحي لمن احتاج إلى هذه الرخصة.[3]

ثم يقول: (القارئ من أولئك الشيوخ والعجائز بدل الكلمة القرآنية التي ذهل عنها كلمة تؤدي معناها فتقوم مقام التي ذهل عنها.)[4] هل يقال مثل هذا في حق قراء الصحابة؟ فإن كان الجواب: لا، فاعلم أن قراءة ابن مسعود وأُبي وزيد لم تكن بسبب كلمات ذهلت عنهم، أو تساهلا منهم، ولكن كانت لتلقّيهم هذه الألفاظ من النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأوا كما سمعوا.

 

الدليل الثاني

قال الراجحي: (أن القراءات المختلفة لو كانت كلها منزلة من عند الله لم يكن بوسع الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يلغيها ويبقي على حرف قريش، فهذا من أوضح الأدلة على أن الأحرف السبعة إنما هي رخص لكل أهل لهجة أن يقرؤوا بلهجتهم.)

وقال: (هذا الدليل وهو إلغاء عثمان لبقية الأحرف من أقوى الأدلة على هذه المسألة، ولو لم يوجد غيره لكفى لشدة وضوحه وجلائه.)[5]

وقال أيضًا: (فلو كانت الأحرف منزلة من عند الله ما كان عثمان رضي الله عنه يفكر ولو مجرد تفكير أن يلغيها ويحرق المصاحف، هل يعقل هذا!)[6]

قلت: الجواب عن ذلك أن الرخص حكمها يختلف وللخليفة إلغاء أو توقيف الرخصة من أجل مصلحة كما فعل عمر رضي الله عنه مع متعة الحج. والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: ما هي الحكمة مما فعله عثمان رضي الله عنه لو كانت القراءة بالمرادف جائزة؟ أما كان بوسعه أن يرسل إلى الأمصار أن القرآن منزل على سبعة أحرف فاقرأوا كما تشتهون؟ ما غفل عنه الراجحي هو الهدف من جمع عثمان رضي الله عنه الناس على المصحف وهو إنهاء النزاع والتكفير الذي وقع عندما اختلف الناس. وجمع الناس على مصحف واحد هو الحل الأنسب لذلك، ولم يرد عثمان إلغاء جميع الأحرف فتنتفي الرخصة تمامًا، فجرد المصاحف من النقط كما بينت سابقًا في مقالة أخرى. فإذا اختلف الشامي والعراقي في كلمة، رجعوا إلى المصحف المجرد من النقط وعلموا أن المصحف يحتمل القراءتين، فكان هذا هو الحل الأنسب. وأما الاختلافات التي لها أثر كبير في الرسم كـ(والذكرِ والأنثى)، وهي قراءة كوفية، فما كان من وسعهم أن يقرأوها إذ كانت تخالف الذي في المصحف: (وما خلق الذكرَ والأنثى). وأما بعض الاختلافات الصغيرة كزيادة الواو والفاء و(هو) و(من)، فلم يظن عثمان رضي الله عنه أنها تؤدي إلى الاختلاف الذي يؤدي إلى التكفير فأبقاها كما هي.

وأما لو كانت الرخصة هي قراءة القارئ بالتشهي، فلماذا كفّر الناس بعضهم بعضًا أصلًا؟ هذا لا يستقيم إلا لو خُفي هذا عن الناس تمامًا، مع تواتر النص في إنزال القرآن على سبعة أحرف. وأما النزاع مع اعتقاد إنزال السبعة حقيقة جائز، فالقارئ الشامي يظن أن العراقي أخطأ في قراءته أو أنه قرأ بالتشهي أو بالاجتهاد، ولا يصح غير قراءته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأكرر، لو كانت الأحرف السبعة مجرد رخصة للقراءة بالتشهي لأعلمهم عثمان رضي الله عنه بذلك، فلا حاجة لجمع المصاحف، ولا لإحراق غيرها، ولا لنسخها وجمع الناس عليها. ويكفي لإثبات أن القراءة كانت بالتلقي أن عثمان رضي الله عنه جعل بعض الاختلافات في المصاحف، وهذا الأمر فصلت فيه في المقالة التي سبق الإشارة إليها.

ومن اعتراضات الراجحي: (كان بإمكانه أن يكتبها في مصاحف ويرسل بها إلى أولئك المختلفين ويعلمهم أن كلها حق منزلة من الله وأن عليهم أن يحفظوها كلها ولا يختلفوا فيها.)[7] 

قلت: هذا ينافي الحديث الذي نقله الراجحي كدليله الأول، فإن الله تعالى أنزلها رخصة للتيسيير عل الناس، وحفظ جميع الاختلافات سيكون شاقًا على أمته. ولا أظن أن هذا سينهي النزاع، بل أظنه سيؤدي إلى ازدياد الاختلاف في المصر الواحد بعد أن استقر أكثرهم على قراءة. ومثال ذلك أن أهل الشام اجتمعوا على قراءة ابن عامر وقرأوا بها قرونًا، ولكن لو كانت لديهم سبعة مصاحف تشمل جميع الأحرف لكثر الاختلاف بين أهل الشام أنفسهم.

وقال الراجحي ساخرًا بأهل العلم: (لا سيما وأن بعض المتأخرين يزعمون أن تلك الأحرف والقراءات تشتمل على معان عظيمة من الله! فكيف يمنع عثمان الأمة إلى قيام الساعة من هذه المعاني العظيمة التي مَنَّ بها الله على عباده.)[8]

قلت: تقييد الناس بالرسم العثماني لا يمنع من معرفة المعاني العظيمة، فهي محفوظة في كتب السلف وإن لم نقرأ بها، فمن أرادها رجع إلى الكتب التي تعتني بالقراءات الشاذة، والحمد لله رب العالمين.

 

الدليل الثالث

قال الراجحي: (أن عثمان حين أمر بكتابة المصحف قال للرهط القرشيين الثلاثة: (إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم.) أخرجه البخاري (4702). وكذلك قال عمر رضي الله عنه لابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله أنزل القرآن بلسان قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش) كما سيأتي ذكره قريبًا والاستدلال به من جهة أخرى. وهذه نصوص صريحة واضحة، ولو نزل جبريل بجميع القراءات والأحرف ما كان لقول عثمان أو عمر رضي الله عنهما أي معنى.)

ثم قال: (ولا يصح أن يقال: إن المراد أول ما نزل، فيضاف إلى هذا النص الواضح الصريح لفظة (أول ما نزل) ليفرغ من دلالته الصريحة. فإن هذا تحريف للنص وتغيير لمعناه.)[9]

قلت: والرد على هذا بكل بساطة قول النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر عنه: (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.) والجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة يؤدي إلى نتيجة واضحة وهي أن المراد بقولهم أن القرآن أنزل بلسان قريش، أي: أنزل أولًا.

وقول الصحابة أن القرآن نزل بلسان قريش يشبه ما قاله الطبري عندما تكلم عن قوله تعالى (بل عجبت ويسخرون) [الصافات: 12]، قال: (فإن قال: أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما؟ قيل: التنزيل بكلتيهما، فإن قال: وكيف يكون تنزيل حرف مرتين؟ قيل: إنه لم ينزل مرتين، إنما أنزل مرة، ولكنه أمر صلى الله عليه وسلم أن بالقراءتين كلتيهما.)[10]

ومن أغرب ما استدل به الراجحي لنصرة هذا الدليل التالي: (أخرج الداني في “المحكم” ص(21) بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (أنه قرأ: عباد الرحمن، قال سعيد: فقلت لابن عباس: إن في مصحفي (عند الرحمن)، فقال: امحها واكتبها: (عباد الرحمن.)[11]

قلت: لا أدري ما هذا، إلا أنه دليل على الراجحي وليس له، فالرد عليه من وجوه:

  • الأول: لا علاقة لهذه القراءة باللهجات، فلا يقال أن هذا المقروء يخالف حرف قريش.
  • الثاني: كيف يقال أن هذه القراءة أُذن بها وهي مخالفة للقراءة الأخرى في المعنى؟ فلا علاقة لهذا بالقراءة بالمرادف، فثبوت القراءتين يدل على أن القراءتين منزلتان.
  • الثالث: انكار ابن عباس لقراءة (عباد) يدل على أنه لا يرى أن القراءة تستقيم إلا بالتلقي، فلو كانت يجوز عنده ابدال الألفاظ لترك سعيدًا يقرأ كما يشاء.
  • الرابع: الذي في مصحف عثمان (عند) من غير الألف، وابن عباس يعترض على ذلك، فهذا الأثر يدل على أن ابن عباس رضي الله عنه يرى أن قراءة (عباد) هي القراءة المنزلة وأن عثمان رضي الله عنه أخطأ في الرسم ولم يُصب في اختيار هذا الحرف. فهل أراد الراجحي تخطئة رسم عثمان؟ فهذا يتعارض مع ما قرره سابقًا من أن القراءة المنزلة هي التي جمعها عثمان.

 

الدليل الرابع

قال الراجحي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ عليهم أو يقرئهم إلا بلسان قريش، ولم يكن يقرئهم بغيرها إلا ما ورد في قصة عمر مع هشام بن حكيم وسيأتي الكلام عليها وبيان حقيقة هذه الرواية. ولو كانت الأحرف والقراءات قد نزل بها جبريل لكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئهم بها كثيرًا كما يقرئهم بحرف قريش، ولرأيته يقرأ بها في صلاته بهم، ولكان هذا مشهورًا ظاهرًا بينًا لا يخفى على أحد.)[12]

وقال: (يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويقرئ بلفظ واحد، وهو حرف قريش الذي نزل به القرآن، وليس بألفاظ مختلفة.)[13]

قلت: بل الروايات التي تذكر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءات متعددة ثابتة، فمنها حديث أُبي وفيه أنه اختلف مع صحابي آخر وهما يقولان لبعض: (أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.)[14]

ومنها قراءته صلى الله عليه وسلم: (والذكر والأنثى) التي أقرأها أبا الدرداء وابن مسعود.[15]

ويرى الراجحي أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه هي نفسها قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك شارحًا لحديث (من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد).[16] قال الراجحي: (فهذا يدل على أن القرآن أنزل بلفظ واحد وحرف واحد وأجيز أن يقرأ بحروف أخرى حسب لغات الناس. ومعنى الحديث من أراد أن يقرأ القرآن بالحرف الذي نزل من عند الله ليقرأ بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولذلك قال: “غضًا كما أنزل.” وكيف لا يكون كذلك وهو يقول: أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة.)[17]

قلت: يعتقد الراجحي أن جميع ما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه هو قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أيضًا أن القراءة التي جمعها عثمان رضي الله عنه هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا. وهذا صحيح أيضًا، ويدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالقراءتين.

ولا أظن أنه خفي على الراجحي كراهية ابن مسعود رضي الله عنه لترك قراءته من أجل قراءة زيد بن ثابت،[18] ولكن مثل هذا التخبط في تحديد قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لا يستغرب منه.

وأزيد على ما تقدم بعض ما ورد من نصوص السلف في إثبات وجود أحرف متعددة، منها:

فقال عبد الله بن كثير أن (أفلم يتبين) هي في القراءة الأولى.[19]

وقال سعيد بن جبير: (في القراءة الأولى: بل عجبت وأسخروني).[20]

فهذان نصان يدلان على أن بعض القراءات المخالفة لما في مصحف عثمان رضي الله عنه نزلت أولًا وأما الرسم ففيه إثبات ما في العرضة الأخيرة كما هو معلوم. فيفهم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بأكثر من قراءة.  

تنبيه: على القارئ أن يعلم أن الراجحي لا يسلم تمامًا للقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ هشام بن حكيم، فإن للراجحي  توجيه قبيح آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هشام على خطئه، فيقول: (ولكن هشامًا ربما أنه هو الذي نسي فغير بعض الألفاظ. وقد يؤيد هذا الاحتمال أن هشام بن حكيم رضي الله عنه حديث عهد بإسلام فهو لم يسلم إلا قبل زمن يسير، فما أسلم إلا بعد فتح مكة، ومن هذه حاله لا يستبعد أن يخطئ في الحفظ.)

ويقول: (ولوجود هذه الرخصة بالأحرف صوب النبي صلى الله عليه وسلم قراءتهم جميعًا.) [21]

ولا يخفى على القارئ ما في هذا الكلام من جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشكيك في صدقه.

 

الدليل الخامس:

قال الراجحي: (أن كثير من أهل العلم الراسخين من القراء والمفسرين واللغويين وغيرهم قد تكلموا في بعض القراءات، وفاضلوا بينها أو خطأوها بعضها، وهذا أمر مشهور معلوم…

وهذا صريح في أنهم كانوا يرون أن تلك القراءات المختلفة ليست كلها منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ينقدون ويخطئون ويضعفون ويفاضلون، فينقدون كل لهجة ضعيفة، أو ما تشوبه مخالفة للغة فصحى، ولا يجدون أي حرج في ذلك، لأنهم على يقين وطمأنينة أن الذي أنزله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى درجات الفصاحة والبيان واللسان العربي المبين، فهم يعتقدون أن تلك القراءات الكثيرة المختلفة ليست من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هي قراءات أذن للناس أن يقرؤوها بها في زمن الرخصة.) [22]

قلت: هذا استنتاج تافه.

 قرأ بعضهم: (غَلبت الروم)،[23] وها أنا أردها. هل ذلك لأني أقر بأنها من الأحرف التي نزلت بالتشهي؟ أو أني أردها لأنها ليست من القراءات الصحيحة؟

الأصل في رد القارئ والمفسر للقراءة هو أنه يراها باطلة أو أنه يشك في ثبوتها، ولو كان هؤلاء الذين تكلموا في القراءات سكتوا عنها تمامًا لقال الراجحي: سكوتهم دليل على أن القراءات رخصة فلا وجه لردها.

والواقع أن نقدهم للقراءة من أقوى الأدلة على عدم وجود رخصة للقراءة بالمعنى، وهذا معروف في جيل الصحابة. فكان ابن عباس رضي الله عنه يخطئ من قرأ (حتى تستأنسوا)، وكان يقرأ قراءة أُبي رضي الله عنه (حتى تستأذنوا).[24] أما كان يعلم ابن عباس بالرخصة في القراءة بالمرادف؟ إن كان يعلم بها فلماذا ينهاهم عن هذه القراءة؟ فالجواب بكل بساطة أن من كان يؤمن بأن القراءة لا تكون إلا بالتلقي سينكر على من قرأ بحرف لم يعرفه، ولا وجه للإنكار والتخطئة لو كانت القراءة بالمرادف جائزة.

وتقدم في الرد على الدليل الثالث كلام لابن عباس يؤيد هذا. 

 

الدليل السادس

قال الراجحي: (أن الأحاديث السابقة في طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يهون القرآن على أمته ويأذن في قراءته على أحرف مختلفة إنما كان بالمدينة في وقت متأخر جدًا بعد فتح مكة، ومما يدل على ذلك أنه لما اختلف عمر مع هشام بن حكيم وترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونا يعلمان بأن القرآن يقرأ على أكثر من وجه حتى أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصة لم تحصل إلا بعد فتح مكة يقينًا، فإن هشام بن حكيم لم يسلم إلا بعد فتح مكة.

وهذا يعني أن القرآن كان لا يقرأ إلا بلسان قريش إلا في أواخر العهد المدني حين بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فهي رخصة أذن فيها للحاجة إليها.

وإذا كان الأمر كذلك فمتى سيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه بكل الأوجه واللهجات والقراءات، إن من يعلم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتصور أحواله وكيف كان يقضي وقته صلى الله عليه وسلم بين المشاغل الكثيرة المتنوعة، والدعوة والجهاد والتعليم والتوجيه واستقبال الوفود والحج والزوجات ومشاكل الناس وغير ذلك كثير يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتأتى له أن يمضي كثيرًا من أوقاته في تعليم القراءات المتنوعة.)[25]

قلت: كثرة مشاغل النبي صلى الله عليه وسلم لم تمنعه من تدريس الناس القرآن في السنين الأخيرة من حياته فقد نزل فيها سور طويلة كالمائدة والتوبة، فتبليغ الناس القرآن من الأولويات ولو لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم الوقت الكافي لتعليمها للصحابة لمد الله تعالى من عمره إلى أن ينتهي من تلك المهمة.

وأصحاب هذه الاعتراضات يجدون صعوبة في تصور كيفية تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بأحرف متعددة، فيتصورون أنه يأخذ الصحابي الجديد، وهو مثلًا من المؤلفة قلوبهم وقد تأخر إسلامه، فيعلمه القرآن من الفاتحة إلى الناس. ثم يذهب إلى مجموعة أخرى من الصحابة ويعلمهم حرفًا آخر من الفاتحة إلى الناس، إلى أن ينتهي من السبعة. ولا حاجة إلى ذلك كله، والأقرب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ما نزل عليه لفترة معينة، فمثًلا يعلم ما نزل بمكة لمن تقدم إسلامه، فكان المهاجرون يعلمون أخوانهم من الأنصار. فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة لتدريس الأنصاري القرآن أثناء مكثه في المدينة، بل ظاهر قول ابن مسعود: (أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم)[26] أنه فاق الصحابة في كثرة سماعه للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا التصور أن جميع الصحابة سمعوا جميع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح. فالظاهر أن  النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض آخر سنوات حياته يعلم الصحابة الفاتحة إلى الناس، وإنما يعلمهم آخر ما نزل من القرآن، كسورتي التوبة والمائدة. وأما عرضهم القرآن عليه، فهذا أقرب، وله شواهد في الأحاديث. فكان يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم حفظة القرآن الأحرف الأخرى ويكتفي بذلك، وهذا ليس بصعب لمن حفظ القرآن.

وهكذا نجد السلف يتعلمون القرآن، قال جرير بن عبد الحميد: (كان إذا جاء شهر رمضان جاء أبو حيان التيمي وحمزة الزيات، مع كل واحد منهما مصحف، فيمسكان على الأعمش، ويقرأ فيستمعون لقراءته، فأخذنا الحروف من قراءته.) وقال القاسم بن سلام: (ولم يبلغنا أنه – أي: الأعمش – قرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره.)[27]

 

الدليل السابع

قال الراجحي: (ورد عن عمر رضي الله عنه: (أنه سمع رجلًا يقرأ من سورة يوسف  (من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه عتى حين)، فقال عمر: من أقرأكها؟ قال: أقرأنيها ابن مسعود، فقال عمر: (حتى حين)، وكتب إلى ابن مسعود: أما بعد: فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام). أخرجه ابن شبة في “أخبار مكة” (3/227)، وابن عبد البر في “التمهيد” (8/278)، وغيرهما.

وهذا دليل واضح جدًا على أن الذي نزل به جبريل إنما هو حرف واحد، وهو حرف قريش، ولو كانت كلها منزلة ما أنكر عمر على ابن مسعود، وكيف ينكر عليه وهو يقرئ بقراءة أنزلها الله، ونزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.)[28]

قلت: ناقض الراجحي نفسه فإنه يعتبر قراءة ابن مسعود رضي الله عنه هي المنزلة،[29] راجع الرد على الدليل الرابع. وأما بالنسبة لسبب نهي عمر رضي الله عنه ابن مسعود رضي الله عنه عن هذا الحرف، فذكر ابن حجر أن عمر قال هذا على سبيل الاختيار، لا أنه يراه حرامًا.[30]

ومنع عمر لابن مسعود لا يستقيم مع نظرية القراءة بالمرادف أصلًا.

قال الراجحي: (فنهاه عمر لأن الرخصة تقدر بقدرها، فهي رخصة للتسهيل والتوسعة، أما التعليم والإقراء فشأن آخر، يختار به الحرف الذي نزل به القرآن.)

قلت: وإذا تأملنا هذا الكلام وطبقناه على الواقع التاريخي لوجدنا أن جميع الأمة خالفت ما توصل إليه الراجحي، فكان كبار الصحابة يعلمون الناس القراءات على غير لغة قريش، وجميع القراء يقرئون الناس على الأحرف الأخرى، فالراجحي يقر بنفسه أن القراءة الأولى المنزلة لا سبيل لمعرفتها اليوم.[31]

ثم ذكر الراجحي رواية أخرى: (ومثل هذا الدليل في الوضوح ما رواه عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر بن الخطاب قرأ (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان) فرفع الأنصار ولم يحلق الواو في الذين، فقال له زيد بن ثابت: (والذين اتبعوهم بإحسان)، فقال عمر: (الذين اتبعوهم بإحسان)، فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم، فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب، فسأله عن ذلك. فقال أبي: (والذين اتبعوهم بإحسان)، فجعل كل واحد منهما يشير إلى أنف صاحبه بإصبعه، فقال أُبي: والله أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تتبع الخبط. فقال عمر: نعم إذن، فنعم إذن، فنعم إذن نتابع أبيًا.

قال السيوطي في “الدر المنثور” (4/268): أخرجه أبو عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه”.

ولو كان هناك أحرف متعددة قد أقرأ بها النبي ما اختلفوا، ولفرحوا واعتبروهما قراءتين صحيحتين عن النبي صلى الله عليه وسلم.)

قلت: هذا دليل على الراجحي وليس له، فإن تخطئة الصحابة بعضهم بعضًا تدل على أنهم يرون أن القرآن لا بد من أن يؤخذ من النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الطبيعي أن يخطئ القارئ أخاه إذا قرأ بغير ما يقرأ، وهذا نراه اليوم في جميع طبقات الناس من العامة والعلماء. ولو جاز لهم القراءة بالمرادف فلماذا تراجع عمر عن قراءته؟  ونجد مرة أخرى أن الرواية تخالف نظرية القراءة بالمعنى، فلو كان يجوز للقارئ أن يقرأ بالتشهي فلماذا يخطئ زيد قراءة عمر؟

 

الدليل الثامن

قال الراجحي: (أن الله تبارك وتعالى يقول: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والمعروف أن كثيرًا من القراءات ذهبت ولم تحفظ.)[32]

قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلها شاف كاف،)[33] فقراءتنا هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ. وأما قراءة الراجحي فلا يدرى إن كانت هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم أو قراءة غيره كما أقر بنفسه،[34] فعليه أن يقر بأن القرآن محفوظ بالمعنى فقط ويصعب ذلك إذ سبق أن أقر بأن هناك أحرفًا تختلف في المعنى.[35]

 

الدليل التاسع

قال الراجحي: (جاء في عدد من الروايات فيها الإذن بالرخصة والمنع فقط مما يغير المعنى، كإبدال آية عذاب برحمة وآية رحمة بعذاب.

ففي حديث أُبي رضي الله عنه عند أحمد (35/84) (إقرأ القرآن على سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفورًا رحيمًا، أو قلت: سميعًا عليمًا، أو عليمًا سميعًا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.)[36]

قلت: رواه أحمد عن ابن مهدي عن همام عن قتادة عن يحيى بن يعمر عن سليمان بن صرد عن أُبي، وقال الإمام أحمد كما في المعرفة والتاريخ للفسوي: (ولم يسمع قتادة من يحيى بن يعمر شيئًا.)[37] وقال البيهقي: (رواه معمر عن قتادة فأرسله،)[38] فلا يصح الحديث.

ورواه القاسم بن سلام من طريقه عن سليمان بن صرد من غير الزيادة أيضًا.[39]

ثم قال الراجحي: (وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد (34/70) (اقرأه على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة.)[40]

قلت: رواه أحمد عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف عند أغلب النقاد فلا يحتج به، فحديث أبي بكرة ضعيف، إذ قد تفرد علي بن زيد به.[41]

ثم قال الراجحي: (وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد (14/120) أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليمًا حكيمًا، غفورًا رحيمًا.))

قلت: حديث أبي هريرة رواه عنه أبو سلمة ورواه عنه محمد بن عمرو بن علقمة وأبو حازم[42] وخالفه بذكر هذه الزيادة. قال ابن حبان: (قول محمد بن عمرو أدرجه في الخبر، والخبر إلى: “سبعة أحرف،” فقط.)[43] وهذا يوافق حديث أبي سلمة. ومحمد بن عمرو بن علقمة مختلف فيه بين النقاد.[44]

وهذه الزيادة تخالف الحديث المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مروي عن عمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وحذيفة وأبي جهيم وأم أيوب ومعاذ وليس فيه هذه الزيادة، وهو ثابت عن أُبي من غير الزيادة كما تقدم.

ثم قال الراجحي: (وفي رواية “ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة” أخرجه ابن جرير في “التفسير” (1/19).[45]

وهذا الحديث الذي رواه الطبري بإسناده عن أبي هريرة فيه إسماعيل بن أبي أويس وتكلم في عدالته وضبطه.[46] وأستغرب من ذكر الراجحي لهذا الحديث كدليل على صحة القراءة بالمرادف، إذ ليس فيه ما يشعر بذلك. فهل يظن الراجحي أنه من الممكن أن نستبدل آية عذاب بمعانٍ أخرى؟ فمثلًا، قال الله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كان يكذبون) فهل يجوز لأحدهم أن يقول: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا وسيخلدون في النار)؟ فهذا عذاب وذاك عذاب.

وعند الرجوع إلى أهل العلم نجد الفهم الصحيح للحديث،  قال النحاس شرحًا للحديث باستخدام الآية الكريمة: (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابًا أليمًا).

قال: (فهذا تعليم التمام توفيقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينبغي أن يقطع على الآية التي فيها ذكر الجنة والثواب ويفصل ما بعدها إن كان بعدها ذكر نار أو العقاب نحو: (يدخل من يشاء في رحمته) ولا ينبغي أن يقول: (والظالمين) لأنه منقطع عما قبله لأنه منصوب بإضمار فعل ويعذب الظالمين أو وعذب الظالمين.[47]

وهكذا فهمه الداني فاستدل بآيات منها: (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.) فقال بعد أن ذكر الحديث الذي تقدم: وذلك نحو: (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) هنا الوقف، ولا يجوز أن يوصل ذلك بقوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)، ويقطع على ذلك، ويختم به الآية.[48]

 

الدليل العاشر

ذكر الراجحي أن قراءة ابن مسعود رضي الله عنه هي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا يدل على أن القرآن أُنزل بحرف واحد.[49]

تقدم فيما سبق في الرد على الدليل الرابع، فلا حاجة للإعادة.

 

إدعاء ونقضه

مما يزعمه الراجحي انتصارًا لمذهبه في الأحرف أن القرون الأولى ما كانوا يقرأون قراءات متعددة،[50] ويرى أن هذا دليل على أنهم لم يكونوا يعتبرونها منزلة، فلو كانت منزلة جميعًا لبذلوا الجهد على جمعها.

وهذا الكلام غير صحيح، فقد قال ابن سيرين: (لولا أني أخاف أن تلبس قراءتي لأحببت أن أقرأ القراءتين جميعًا قراءة ابن مسعود وقراءة ابن عفان).[51]

وكان سعيد بن جبير يؤم الناس في رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود ويقرأ  الأخرى بقراءة زيد بن ثابت، وأقر بصحة ذلك الراجحي، إلا أنه قال: (فقراءة ابن مسعود هو إظهار للتمسك بهذه القراءة لتظل باقية كما أرشد إلى ذلك ابن مسعود رضي الله عنه.)[52]

قلت: فلماذا لم يكتف بقراءة ابن مسعود إذن؟! هذا الجواب من الراجحي فيه تكلف، وكان يدعي أن السلف ما كانوا يجمعون أكثر من قراءة، وعندما وجد ما يناقض ذلك جاء بهذا التوجيه للواقع التاريخي. وأنا صراحة لا أدري لماذا يدعي الراجحي أن السلف لم يقرأوا إلا بقراءة واحدة إن كان يعلم أن الواقع يخالف ذلك، فلا حاجة لمثل هذه التبريرات.

 

 المصادر:

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ابن حبان، دار المعرفة / بيروت، ط1: 1425هـ.

تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.

تفسير ابن جريج، ابن جريج، دار الكمال المتحدة / دمشق، ط1: 1440هـ.

تهذيب التهذيب، ابن حجر، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429هـ.

جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1412هـ.

سنن الترمذي،الترمذي، ت: عصام موسى هادي، دار الصديق / الجبيل، ط1: 1433هـ.

السنن الكبير، البيهقي، ت: التركي، القاهرة، ط1: 1432هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام / الرياض، ط2: 1419هـ.

فتح الباري، ابن حجر، دار السلام / الرياض، ط1: 1421هـ.

فضائل القرآن، القاسم بن سلام، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1411هـ.

فضائل القرآن، المستغفري، دار ابن حزم / بيروت، ط1: 1427هـ.

القطع والإئتانف، النحاس، دار عالم الكتب / الرياض، ط1: 1413هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار السلام / الرياض، ط1: 1434هـ.

المصاحف، ابن أبي داود، البشائر / بيروت، ط2: 1423هـ.

معرفة القراء الكبار، الذهبي، دار الصحابة / طنطا، ط1: 1428هـ.

المعرفة والتاريخ، الفسوي، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1419هـ

المكتفى في الوقف والابتداء، الداني، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط2: 1407هـ.


 

[1]  المسائل الكبرى ص190

[2]  المسائل الكبرى ص165

[3]  المسائل الكبرى ص190

[4]  المسائل الكبرى ص190

[5]  المسائل الكبرى ص193

[6]  المسائل الكبرى ص192

[7]  المسائل الكبرى ص194

[8]  المسائل الكبرى ص194

[9]  المسائل الكبرى ص196-197

[10]  جامع البيان في تفسير القرآن 10/476

[11]  المسائل الكبرى ص197

[12]  المسائل الكبرى ص200

[13]  المسائل الكبرى ص201

[14]  تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار 8/149-151

[15]  صحيح البخاري ص632

[16]  مسند أحمد ص15

[17]  المسائل الكبرى ص213

[18]  المصاحف 1/179-192

[19]  تفسير ابن جريج ص129

[20]  تفسير ابن جريج ص171

[21]  المسائل الكبرى ص219

[22]  المسائل الكبرى ص202-203

[23]  سنن الترمذي ص948

[24]  جامع البيان للطبري 9/296

[25]  المسائل الكبرى ص206

[26]  صحيح البخاري (5000)

[27]  معرفة القراء الكبار ص125-126

[28]  المسائل الكبرى ص210

[29]  المسائل الكبرى ص213

[30]  فتح الباري 9/35

[31]  المسائل الكبرى 237

[32]  المسائل الكبرى 211

[33]  مسند أحمد ص1511

[34]  المسائل الكبرى 237

[35]  المسائل الكبرى 130-133

[36]  المسائل الكبرى ص212-213

[37]  المعرفة والتاريخ 2/85

[38]  السنن الكبير 4/633

[39]  فضائل القرآن ص201-202

[40]  المسائل الكبرى ص213

[41]  تهذيب التهذيب 3/165-166

[42]  مسند أحمد ص551

[43]  الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ص309

[44]  تهذيب التهذيب 2/662-663

[45]  المسائل الكبرى ص213

[46]  التهذيب التهذيب 1/157-158

[47]  القطع والإئتناف ص13

[48]  المكتفى ص132

[49]  المسائل الكبرى ص213

[50]  المسائل الكبرى ص58

[51]  فضائل القرآن للمستغفري 1/370

[52]  المسائل الكبرى ص91

بقلم : وقار أكبر چيمة

 

يزعم الراجحي بأن المقصود بـ(سبعة) في حديث السبعة الأحرف هو عدد لا حصر له من القراءات، وليس عددا محددا بعينه (ص. ٤٥٣-٤٥۹)

الأحاديث النبوية

في الواقع، لم يعتمد الراجحي على الأحاديث التي ترتبط بهذه المسألة، باستثناء ذكره لرواية واحدة من حديث أبي بكرة الذي يرويه الحسن بن دينار عن علي بن زيد، ويقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الأحرف السبعة: “فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهى العدّة”.[1]

والحسن متكلم فيه إلا أن تعليق ابن عدي بشأن الحسن بن دينار وثيق الصلة بالموضوع:

وقد أجمع من تكلم في الرجال على ضعفه على أني لم أر له حديثا قد جاوز الحد في الإنكار.[2]

ومع إقرارنا بانتقاد عدد من علماء الحديث للحسن بن دينار، بيد أن هذا الحديث ليس الوحيد الذي يثبت المعنى العددي للفظ سبعة الوارد في الأحاديث، ومفصلا الأخذ والرد بين جبريل عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلّم؛ إذ أن روايات هذا الحديث من طرق أخرى تثبت ذلك أيضا. يأتي حديث أحمد بن حنبل وغيره على ذكر زيادة العدد من ثلاثة إلى أربعة أحرف، ومن أربعة إلى خمسة أحرف، ومن خمسة إلى ستة أحرف، واستقرار العدد على سبعة أحرف في نهاية المطاف.

عن أبي إسحاق، عن سقير العبدي، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: سمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: انطلق إليه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئ هذا، فقال: «اقرأ» فقرأ، فقال: «أحسنت» فقلت له: أولم تقرئني كذا وكذا؟ قال: «بلى، وأنت قد أحسنت» فقلت بيدي: قد أحسنت مرتين، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: «اللهم أذهب عن أبي الشك» ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يا أبي، إن ملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على ثلاثة، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على ستة، قال الآخر: زده، قال: اقرأ على  سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف”[3]

صحيح أن الكثير من الروايات الأخرى للحديث لا تذكر بالتحديد كل مراحل الزيادة التدريجية، غير أنه ثمة مؤشرات واضحة التي تبرز حصول الأمر عينه، وذكره بإيجاز.

[4]ومن بين الروايات الأخرى عن أُبي من طريق سليمان بن صرد نفسه، نجد رواية تذكر “هكذا حتى بلغ سبعة أحرف”.

ويسري الأمر عينه على روايات حديث أُبي من طريق أنس بن مالك حيث تذكر إحداها إخبار جبريل النبي عليه الصلاة والسلام أن يقرأ على ثلاثة أحرف، ثم يليها ذكر ميكائيل والنبي صلى الله عليه وسلم يطلبان الزيادة التي تمّت “كذلك” حتى استقر الأمر على سبعة أحرف. [5]

فضلا عن ذلك، من المثير للاهتمام تشديد الراجحي عند مناقشة ذلك على الإشارة إلى مجيء حديث أبي بكرة كقاعدة من طريق علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف (ص ٤٥۹). وفي موضع آخر، يقتبس حديث أبي بكرة لإثبات رأيه (ص ٢۱٣ و٢٤٤) متجاهلا حقيقة كونه من طريق علي بن زيد بن جدعان. وفي الواقع، يشير الراجحي إلى الحديث في (ص ٢٤٤) على أنه “صحيح”.

آراء العلماء

بغية ادعاء قوة رأيه، يحيل الراجحي إلى الخطابي، والأندرابي، والقاضي عياض، وأبو شامة، وجمال الدين القاسمي، وابن عاشور كعلماء يثبتون رأيه.

ولا بدّ لنا هنا  من التنويه إلى قيام بعض هؤلاء العلماء بذكر الرأي الذي يتبناه الراجحي من دون تبنيه. وفي الواقع، لقد قام عدد منهم بذكر هذا الرأي بطريقة تشير إلى استحالته (باستخدام صيغة التمريض على سبيل المثال).

كما تجدر الإشارة إلى مناقشة الكثير من العلماء المتقدمين لهذه المسألة وسردهم لآراء مختلفة حول معنى السبعة أحرف. ونذكر على سبيل المثال جمْع ابن حبان البستي (ت. ٣٥٤ هـ/۹٦٥ م) لنحو خمسة وثلاثين تفسيراً.

أما ابن الجوزي (7٥۹ هـ) [6] فقد ناقش أربعة عشر تفسيرا فقط، تصب جميعها في إطار المعنى العددي المحدّد. أما القرطبي (671 هـ) [7]وابن كثير (774 هـ) [8] فقد اختارا الإشارة إلى خمسة منها فقط. هذا وقد سبقهم إلى ذلك كل من أبو عبيد القاسم بن سلاّم (٢٢٤ هـ)، [9] والباقلاني (٤۰٣ هـ)، [10] ومكي بن أبي طالب (437 هـ)۱۰، والداني (٤٤٤ هـ)، [11] والماوردي (٤٥۰ هـ)، [12] وابن عطية (٥٤٢ هـ)، [13]الذين ناقشوا آراء مختلفة لكنهم لم يذكروا أي رأي خارج إطار المعنى الضمني لللفظ.

أعطى الخطابي (ت. ٣٨٨ هـ/۹۹٨ م)، في تفسيره لسنن أبي داود، معانٍ ومناقشات حول الأحرف السبعة تتضمن اللهجات العربية السبعة، غير أنه ذكر الرأي بطريقة تشير إلى استبعاده، حيث استخدم عبارة (وقيل فيه وجها آخر) يدل على التخفيف من دون حصرها بعدد بعينه. [14] ولم تكن هذه العبارة إعلان تأييد بكل تأكيد. وبناء عليه، لم يذكر الخطابي هذا الرأي في تفسيره اللاحق لصحيح البخاري،[15] على الرغم من إفراده عدة صفحات لهذا الموضوع. [16]

وبالتوازي، مرّ القاضي عياض (٥٤٤ هـ) مرور الكرام على الرأي القائل بأن لفظ سبعة يشير إلى عدد لا حصر له من القراءات (وقيل: توسع وتسهيل ولم يقصد به الحصر)، [17]من دون التوسّع أكثر. فضلا عن ذلك، نرى عدم اتيانه على ذكر هذا الرأي في بحثه المقتضب للمسألة في كتابه مشارق الأنوار، الأمر الذي يثبت أن هذا الرأي لم يتمسك به. [18] وعليه، تعتبر نسبة كل من ابن حجر العسقلاني[19]  والسيوطي[20]هذا الرأي إلى القاضي عياض خاطئة. لذا كان صبحي الصالح محقا في تشكيكه بهذا العزو. [21]

يذكر أبو شامة المقدسي (٦٦٥ هـ) عددا لا حصر له من القراءات كأحد المعاني المتعددة الذي يحمله لفظ سبعة، ويوفّر تأكيدات متناقضة قبل إظهار ميوله. فعمد بداية إلى تبني الرأي الذي يحصر اللفظ بالحديث الذي يروي سؤال النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف في عدد الأحرف، وقال: “فلما انتهى إلى سبعة وقف، وكأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه لا يحتاج من ألفاظه لفظ إلى أكثر من ذلك غالبا”.[22] وبعد ذلك مباشرة، تأمل في تفسير معنى السبعة ناقلًا كلام الخطابي الذي ينتهي بذلك الكثرة الغير محددة كتفسير محتمل، مشيرًا إلى الآية 80 في سورة التوبة لتعزيز رأيه.

وتجدر الإشارة إلى أن ذهاب أبي شامة إلى هذا الرأي كان بسبب اعتماده على أثرين ليسا صحيحين أو حتى صريحين للتوصل إلى هذا القول. [23]أحد الأثرين اللذين نسبهما إلى على بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم نقله السيوطي عن ابن عباس وحده. وكان مرتبطا بسؤاله عن معاني بعض الكلمات والاختلاف فيما بينها؛ فأشار ابن عباس عندها إلى كيفية مخالفة القرآن الكريم في بعض الأحيان لما اتفق على دلالته. وبحصر هذا التنويه، أشار ابن عباس إلى أن “الله أنزل القرآن بلغة كل حي من أحياء العرب”. فكل ما أراد ابن عباس فعله هو تسليط الضوء على فكرة اتباع دلالة القرآن في الألفاظ لواحدة من لغات العرب. [24]

وبالتوازي، يتكلّم الحديث الآخر الذي استخدمه أبو شامة عن المرحلة التي استصعب فيها الناس تعلّم القرآن على حرف واحد، فسُمح للنبي صلى الله عليه وسلم عندها أن يُقرئ كل قوم بلغتهم. وقد نقل أبو أحمد الحاكم الحديث بطوله المنسوب إلى ابن عباس من طريق متهم: الكلبي عن أبي صالح. [25] ويذكر الحديث بعد إشارته لحديث السبعة أحرف، قول النبي صلى الله عليه وسلم: “فخمسة  منها في هوازن… وحرفان في سائر الناس.”[26] يقوض التوزيع العددي للفظ السبعة الاستنتاج الذي توصّل إليه أبو شامة.

وعلى أي حال، لم يسبق أبا شامة (٦٥٥ هـ) في تأييد هذا الرأي، أحد ممن له أي وزن من العلماء، وتعارضه مع الكثير من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تجعله واهيا. ولقد توصّل أبو شامة إلى مضامين الحديث، لكنه فشل في فهمه بصورة كاملة ومتسقة. وفي الوقت الذي حذا فيه برهان الدين البقائي (٨٨٥ هـ) حذو أبي شامة في تبني هذا الرأي،[27] إلا أن رأيه هذا لم يكتب له الانتشار. واستمر العلماء في التأكيد على أن لفظ سبعة هنا قُصد به العدد المحدد، موضحين تعارض التفسيرات التي تقول بعدم حصرية العدد مع الروايات الواضحة؛ ومن بين هؤلاء العلماء ابن الجزري (٨٣٣هـ)، [28] والسيوطي (۹۱۱هـ)، [29] وعبد الباقي الزرقاني (۱۱٢٢هـ)، [30] والألوسي (1270هـ) [31] وغيرهم الكثير.

في المقابل، لم يتبنَّ أحد من علماء العصر الحديث البارزين الرأي القائل بعدم حصرية لفظ سبعة، باستثناء جمال الدين القاسمي (۱٣٣٢ه)[32]  ومصطفى صادق الرافعي (۱۹٣٧م) [33]؛ غير أنهما لم يسعيا إلى الالتزام بأصول الحديث، والأدلة المخالفة لهذا الرأي. أما ابن عاشور (۱٣۹٣هـ) فقد نقل هذا الرأي من دون تبنيه.[34]

غير أن العلماء المعاصرين يؤيدون بجلاء المعاني الصريحة للعدد المحدد؛ ونذكر من بينهم عبد العظيم الزرقاني ( ۱۹٤٨م)، [35] ود. حسن ضياء الدين عتر،[36] وعبد الفتاح بن عبد الغني القاضي،[37] وعبد العزيز بن عبد الفتاح القاري،[38] ومحمد تقي عثماني. [39]

ولا بد لنا من التنويه إلى أن العلماء الذين تبنوا الرأي القائل بعدم حصرية العدد سبعة قد فعلوا ذلك على ما يبدو لتجنب الدخول في دائرة مفرغة من المناقشات حول معاني الأحرف،[40] وهذا هو سبب عدم تعميمهم لها على جوانب أخرى من القراءات.

 

قرائن لغوية

الفارق بين سبعة وسبعين / سبعمئة عند الإشارة إلى الكثرة

يشير لفظ سبعة إلى العدد سبعة بكل وضوح، وهذا المعنى الذي لا يحتمل خطأ ناتج عن العدد المحدّد. وفي الوقت الذي يمكننا فيه قبول فكرة حمل مشتقات أخرى لنفس الجذر كسبعين وسبعمئة لمعنى عدم حصرية العدد في سياقات محددة، إلا أن هذا الأمر لا يشمل اللفظ سبعة.

وقد كتب محي الدين خليل الريح، الأستاذ في جامعة الرياض بحثا سلط فيه الضوء على الاختلاف في دلالة سبعين وسبعمئة من جانب، وسبعة من جانب آخر عند الإشارة إلى عدم حصرية العدد. وبناء على دراسته لأهم المعاجم اللغوية العربية، فقد استنتج عدم قدرة المرء على التوصل إلى أدلة لمثل هذه الدلالة للفظ سبعة – وهو ما يهمنا بالنسبة لموضوعنا – كما هو الحال مع سبعين وسبعمئة في سياقات محددة. [41]

(إننا نجد أن المعاجم اللغوية على كلمة سواء فيما يختص بالسبعين والسبعمائة وهو أنهما تكررتا في القرآن الكريم والحديث الشريف، والعرب تضعهما موضع التضعيف ولا تريد معناهما اللغوي في كثير من الأحيان، ولكن هذه المعاجم لا تلتقي على كلمة سواء فيما يختص بالسبعة «والسبع» رغم تكرارهما في القرآن والحديث ولغة العرب)

وحتى فيما يتعلق بالعدد سبعين، فإن عدم حصرية العدد لا تتحقق إلا في بعض المؤشرات السياقية. ومن الأمثلة التي يكثر الاستشهاد بها عند الحديث عن عدم حصرية العدد بالنسبة لمشتقات سبع هي الآية التي قال فيها الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨۰]. غير أن الحديث المرتبط بهذه الآية يطلعنا على ردة فعل النبي ﷺ عقب نزول هذه الآية حيث قال: “سأزيد عن السبعين”.[42] وعليه، يحذّرنا هذا الحديث من تجاهل المعنى العددي المحدّد في الآية أعلاه. ولكن يمكن استشراف مدلول الكثرة غير المحددة من خلال الآية الآتية: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ﴾ [التوبة: ٨٤]. أشار ابن فورك (٤۰٥هـ) إلى هذه الحيثية. [43]وبالتوازي، يرى ابن حجر العسقلاني (٨٥٢ هـ) أنّه طالما تميل التفاصيل الأخرى المرتبطة بهذه الحادثة إلى حجب وجوب مفهوم العدد في هذه الآية، فإنها تبقى مع ذلك إلا إذا قلنا باستخدام العدد سبعين على سبيل المبالغة فقط.[44]

(وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة وكذا مفهوم الصفة من باب الأولى ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين فقال سأزيد على السبعين وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصة وليس ذلك بدافع للحجة لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا)

وبالتوازي، في كل مرة يُفهم فيها إشارة العدد سبعة إلى زيادة غير محددة، فإن السياق وحده الكفيل في توضيح المفهوم الكمّي كما هو الحال مع الآية السابعة والعشرين من سورة لقمان، والحديث المعلّق بالأكل في معي واحد أو سبعة أمعاء.[45]

وفي السياق عينه، حتى لو اتفقنا على أنّ لفظ السبعة يحمل معنى الكثرة غير المحددة في بعض السياقات، فلا بدّ أن ندرك بأن مثل هذا التفسير يجب أن يُبنى على قرآئن سياقية أو لغوية. غير أن مثل هذه القرائن غير متوفرة في الأحاديث المتعلقة بالأحرف السبعة. وفي الواقع، ثمة مؤشرات واضحة تدلّ على العكس؛ لتؤكد بذلك على المعنى العددي المحدّد للفظ. هذا ويفشل الراجحي أيضا في إيجاد مثل هذا العامل على الرغم من مسعاه في تأويل المؤشرات التي تخالف رأيه.

أهمية الجانب النحويّ لكلمة أحرف

يتجاهل الراجحي بشكل واضح الجانب النحويّ لكلمة أحرف. وتجدر الإشارة إلى أن اللغة العربية تتمتع بتصنيف أكثر تشعبًا للجمع، على عكس معظم اللغات الأخرى التي لا تحتوي إلا على صيغتي المفرد والجمع. في الوقت الذي تعتبر فيها التثنية واضحة، فإن الجمع يقسم أيضا إلى جمع القلّة وجمع الكثرة، حيث إنّ الأول يشير إلى الأعداد بين الثلاثة والعشرة؛ يعبّر الأخير عن أعداد أكبر. [46]

يعلّق أبو عمر الداني (٤٤٤هـ) على الأحرف بقوله: الأحرف جمع حرف في الجمع القليل. [47]

وبناء عليه، يؤكد الشكل النحويّ للفظ أحرف بأن سبعة لم تشر إلى عدد لا حصر له في صيغتها تلك. وأضاء الألوسي على هذه النقطة بدوره. [48]

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه بغض النظر عن اختلافات الصيغة والسياق، فلقد أجمعت الروايات النبوية على استخدام صيغة ʾالسبعة أحرفʿ. وبناء عليه، فإن هذا الجزء من هذا الحديث على الأقل يمكن اعتباره متواترا باللفظ، ولذلك فإن صيغة أحرف – جمع قلة – لا يمكن إغفالها. [49]

 

المصادر:

 

الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب، دار النهضة / القاهرة.

إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة، البصيري، دار الوطن / الرياض، 1999م.

الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، دار الحائية المصرية / القاهرة، 1974م.

الأحاديث المختارة، الضياء المقدسي، دار الخضر / بيروت، 2000م.

الأحرف السبعة للقرآن، أبو عمرو الداني، مكتبة المنارة / مكة، 1408هـ.

الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها، حسن ضياء الدين عتر، دار البشائر الإسلامية / دمشق، 1988م.

إعجاز القرآن، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي / بيروت، 2005م.

أعلام الحديث، الخطابي، جامعة أم القرى / مكة، 1988م.

الأعمال الكاملة للشيخ عبد الفتاح القاضي، عبد الفتاح القاضي، معهد الإمام الشاطبي / جدة، 2014م.

إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، دار الوفاء / المنصورة، 1998م.

امتاع الاستماع، المقريزي، دار الكتب العلمية / بيروت، 1999م.

الإنتصار للقرآن، الباقلاني، دار ابن حزم / بيروت، 2001.

البحر المحيط في أصول التفسير، بدر الدين الزركشي، دار الكتبي / القاهرة، 1994م.

تاريخ دمشق، ابن عساكر، دار الفكر / بيروت، 1995م.

التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار التونسية / تونس، 1984م.

تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، السيوطي، دار طيبة / الرياض.

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، دار طيبة / الرياض، 1999م.

التمهيد، ابن عبد البر، المغرب، 1387هـ.

الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة، ابن قطلوبغا، مركز النعمان / صنعاء، 2011م.

جامع البيان في أحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية / القاهرة، 1964م.

جامع البيان في القراءات السبع، أبو عمرو الداني، جامعة الشارقة / الشارقة، 2007م.

جامع البيان في القراءات السبعة، أبو عمرو الداني، جامعة الشارقة / الشارقة، 2007م.

جامع البيان في تفسير القرآن، ابن جرير الطبري، مؤسسة الرسالة / بيروت، 2000م.

حديث الأحرف السبعة، عبد العزيز عبد الفتاح القاري، مؤسسة الرسالة / بيروت، 2002م.

الدر المنثور، السيوطي، مركز الحجاز / القاهرة، 2003م.

الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج، السيوطي، دار ابن عفان / الخبر، 1996م.

روح المعاني في تفسير القرآن الآلوسي، دار الكتب العلمية / بيروت، 1415هـ.   

السنن، أبو داود السجستاني، مؤسسة الرسالة / بيروت، 2009م.

السنن، النسائي، مكتبة المطبوعات الإسلامية / حلب، 1986م.

شرح على موطأ الإمام مالك، الزرقاني، المكتبة الثقافية الدينية / القاهرة، 2003م.

شرح مشكل الآثار، أبو جعفر الطحاوي، مؤسسة الرسالة / بيروت، 1994م.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، دار السلام / الرياض، 1997م.

فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة / بيروت، 1379هـ.

فضائل القرآن، القاسم بن سلام، المكتبة العصرية / بيروت، 2009م.

فنون الأفنان في علوم القرآن، ابن الجوزي، دار البشائر / بيروت، 1987م.

قواعد في علوم الحديث، ظفر أحمد العثماني، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية / كراتشي، 1414هـ.

كلمتان: العدد سبعة العدد سبعون بين المفسرين والمحدثين وأهل اللغة، محي الدين خليل الريح، جامعة الرياض / الرياض، 1980م.

ما اتصل إلينا من فوائد أبي أحمد الحاكم، أبو أحمد الحاكم، دار ابن حزم / بيروت، 2004م.

مباحث في علوم القرآن، صبحي صالح، دار العلم للملايين / بيروت، 2000م.

مجمع الزوائد، الهيثمي، دار المنهاج / جدة، 2015م.

محاسن التأويل، جمال الدين القاسمي، دار الكتب العلمية / بيروت، 1418هـ.

المحرر الوجيز، ابن عطية، دار الكتب العلمية / بيروت، 1422هـ.

المرشد الوجيز، أبو شامة المقدسي، دار صادر / بيروت، 1975.

مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري، دار الكتب العلمية / بيروت، 2001م.

مسند أحمد، أحمد بن حنبل، دار الحديث / القاهرة، 1995م.

مسند أحمد، أحمد بن حنبل، مؤسسة الرسالة / بيروت، 2001م.

مسند البزار، أبو بكر البزار، مكتبة العلوم والحكم / المدينة المنورة، 1997م.

مسند الشاشي، هيثم بن كليب الشاشي، مكتبة العلوم والحكم / المدينة المنورة، 1410هـ.

مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض، دار التراث / قاهرة، 1333هـ.

مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، البقاعي، مكتبة المعارف / الرياض، 1987م.

المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، أبو العباس الفيومي، المكتبة الإسلامية / بيروت.

المصنف، أبو بكر بن أبي شيبة، دار قرطبة / بيروت، 2006م.

معالم السنن، الخطابي، المطبعة العلمية / حلب، 1932م.

مناهل العرفان في علوم القرآن، الزرقاني، مكتبة عيسى البابي الكلبي / القاهرة.

المنتخب من مسند عبد بن حميد، عبد بن حميد، مكتبة بلنسية / الرياض، 2002م.

النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، دار المحسن / الجزائر، 2016م.

النكت والعيون، الماوردي، دار الكتب العلمية / بيروت.

الهداية في بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب، مكي بن أبي طالب، جامعة الشارقة / الشارقة، 2008م.


 

[1]  الأحرف السبعة للقرآن (7)، جامع البيان في قراءات السبعة ص99-100.

[2]  الضعفاء 3/131

[3]  المسند (21152) و(21051)، صححه حمزة أحمد الزين وأحمد شاكر. ينظر: تفسير الطبري (25)، ضعفه شعيب الأرناؤوط لأجل سقير العبدي إذ تفرد ابن حبان في توثيقه. هناك من ذكر أن البخاري وابن أبي حاتم ذكروه من غير جرح ولا تعديل، وهذا وإن لم يكفي لتوثيقه إلا أنه توبع كما سيأتي. ينظر: الضعفاء الصغير للبخاري ت: أبو عينين ص7-8، وقواعد في علوم الحديث لظفر أحمد عثماني ت: عبد الفتاح أبو غدة 223، 357، 403-404. ووثقه ابن قطلوبغا في ثقاته 5/339-340. ينظر أيضًا: مسند الشاشي (1439)، وتاريخ دمشق ط: دار الفكر 3/379.

[4]  شرح مشكل الآثار (3113) والتمهيد 8/283، وإمتاع الأسماء 4/254.

[5]  المنتخب من مسند عبد بن حميد (164)، مسند الشاشي (1425)، الأحاديث المختارة (1129).

[6]  فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي ص200-220

[7]  تفسير القرطبي 1/42-46

[8]  تفسير ابن كثير 1/45-46

[9]  فضائل القرآن لأبي عبيد  ص124، 127

[10] الانتصار للقرآن للباقلاني ص367-393

[11]  الهداية في بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب 4/3131

[12]  النكت والعيون للماوردي 1/29-30

[13]  المحرر الوجيز لابن عطية 1/43-48

[14]  معالم السنن للخطابي 1/293

[15]  أعلام الحديث للخطابي 1/101 ذكر في مقدمته أنه سئل عن يشرح البخاري بعد اتمامه لشرح سنن أبي داود.

[16]  أعلام الحديث للخطابي 2/1207-1211

[17]  إكمال المعلم للقاضي عياض 3/187

[18]  مشارق الأنوار للقاضي عياض 1/188

[19]  فتح الباري لابن حجر 9/23

[20]  الإتقان للسيوطي 1/164

[21]  مباحث في علوم القرآن لصبحي صالح ص104

[22]  المرشد الوجيز لأبي شامة 1/96

[23]  المرشد الوجيز لأبي شامة 1/96-97، 1/99

[24]  الدر المنثور للسيوطي 5/211

[25]  تدريب الراوي للسيوطي 1/198

[26]  ما اتصل إلينا من فوائد أبي أحمد الحاكم ص166

[27]  مصاعد النظر للأشراف على مقاصد السور للبقاعي ص388-389

[28]  النشر لابن الجزري 1/165

[29]  الإتقان للسيوطي 1/164-165

[30]  شرح الموطأ للزرقاني 2/9

[31]  روح المعاني للآلوسي 1/21

[32]  محاسن التأويل للقاسمي 1/178-182

[33]  إعجاز القرآن للرافعي ص51

[34]  التحرير والتنوير لابن عاشور 1/57

[35]  مناهل العرفان للزرقاني 1/149-150

[36]  الأحرف السبعة لحسن ضياء الدين عتر ص74-76، 129-131

[37]  أبحاث في قراءات القرآن لعبد الفتاح قاضي 5/371

 [38] حديث الأحرف السبعة للقاري ص52، 71-72

[39]  علوم القرآن لمحمد تقي عثماني ص103-104

[40] ينظر: لقاء علمي مع شبكة التفسير ص31-32

[41]  كلمتان: العدد سبعة والعدد سبعون بين المفسرين والمحدثين وأهل اللغة لمحي الدين الريح ص16

[42]  صحيح البخاري (4670-4671)

[43]  البحر المحيط للزركشي 5/174

[44]  فتح الباري 8/336

[45]  صحيح البخاري (5396)

[46]  المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي 2/695

[47]  جامع البيان للداني 1/105

[48]  روح المعاني للآلوسي 1/21

[49]  مرقاة المفاتيح لملا علي قاري 5/91

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يتمسك بعض القائلين بنظرية القراءة بالمعنى بقراءة منسوبة إلى بعض الصحابة، وهي قولهم: (إن شجرة الزقوم طعام الفاجر)، فهذا رد مختصر على هذه الشبهة.

أبو الدرداء والقراءة البديلة

روي هذا الحديث من طرق ثابتة؛ غير أنه ثمة اختلافات بسيطة لا ينبغي غض  الطرف عنها:

  • روى سعيد بن منصور عن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا أعجميًا، فقال: (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فلم يُحسن الأعجمي يقول: (الأثيم)، فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: طعام الفاجر.[1]
  • وروى أيضًا عن همام قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما رأى أبو الدرداء أنه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[2]
  • روى الطبري عن همام، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[3]
  • وروى أيضًا عن همام، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[4]
  • روى الحاكم عن همام: عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قرأ رجل عنده (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فقال أبو الدرداء: قل: (طعام الأثيم)، فقال الرجل: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: طعام الفاجر.[5]

تُظهر الأحاديث الثلاثة الأولى والحديثان الأخيران اختلافات بالغة. ففي الأحاديث الثلاثة الأولى، نجد أبو الدرداء يقول: طعام الفاجر، فيكون هذا تفسيرًا منه، وأما في الحديثين الأخيرين، فنجد أبا الدرداء يأمر الرجل بشكل واضح، فيقول: “قل: طعام الفاجر”. لا يمكن استخدام الأحاديث الثلاثة لزعم قيام أبي الدرداء بتعليم لفظ مختلف.

أما فيما يتعلّق بحكم الأحاديث، فجميعها صحيحة، بخلاف الحديث الأول الذي يرويه إبراهيم، لكونه منقطعًا في موضعين. يروي سعيد بن منصور الحديث عن المغيرة، الذي سمع من إبراهيم. غير أن سعيد لم يلتقِ بالمغيرة قط، كما لم يسمع إبراهيم هذا الحديث من أبي الدرداء، كما تشير الأحاديث الأخرى. ينسب المحققون[6] هذا الانقطاع إلى أخطاء النسّاخ.[7] وعلى أي حال، لا يعتبر الحديث مشكلا، وذلك لتوافقه إلى حد ما مع الحديث الثاني الذي ذكره سعيد بن منصور. والأهم من ذلك كله، يأتي الحديث الأول من طريق المغيرة عن شعبة، في حين تأتي الأحاديث الأخرى من طريق الأعمش عن إبراهيم، فهذه متابعة قوية للحديث الثاني.

ومع إبقاء ذلك في الحسبان، يصعب تحديد أي من المجموعتين تحتوي اللفظ الدقيق، إلا أن هذا الإحتمال يقلل من قوة استخدام هذه الرواية كدليل على قراءة أبي الدرداء بالمعنى.

 

الدافع من وراء استخدام المرادف

إذا افترضنا صحة اللفظ الثاني للرواية، وتعليم أبي الدرداء للأعجمي استخدام المرادف، فمن الطبيعي أن نتساءل عن دافع أبي الدرداء من وراء ذلك.

لا تعطي المجموعة الثانية من الأحاديث أي أسباب، في حين توفّر المجموعة الأولى سياق هذه الرواية حيث أن الرجل لم يكن عربيا، ولم يكن باستطاعته قول (طعام الأثيم) بسبب لهجته.

يعلّق أبو بكر الأنباري (٣٢٨هـ) على حديث مماثل يذكر عبد الله بن مسعود[8] بدلا من أبي الدرداء: لا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لأن ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم، وتوطئة منه له للرجوع إِلى الصواب، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم.[9]

ويحتمل أيضًا أن أبا الدرداء اختار جعل الرجل يقرأ (طعام الفاجر) لأن الرجل ببساطة لم يستطع قراءة (طعام الأثيم)، حيث إن استخدام لفظ (الفاجر) كمرادف لـ(الأثيم) أكثر توافقا مع القرآن الكريم من قراءة الرجل من (إن شجرة الزقوم طعام اليتيم)، ما يوحي بدخول الأيتام إلى النار.

ويحتمل أيضًا أن القراءة (طعام الفاجر) منزلة حقيقة، وهذا ما رجحه الباقلاني.[10]

 

منهجية أبي الدرداء

عندما كان أبو الدرداء في الشام، حاول أهلها تصحيح قراءته، بجعله يقرأ ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾ [الليل: ٣] بدلا من (والذكر والأنثى). إلا أن أبا الدرداء لم يتخلّ عن الطريقة التي كان يقرأ بها، كما أنه لم يقل لأهل الشام بأن فحوى القراءتين متشابه. بل على العكس، ظل أبو الدرداء متشبثا بموقفه قائلا: (ما زال هؤلاء حتى كادوا يشككونني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، [11] متصديا لجميع محاولات أولئك الذين كانوا يحاولون التأثير عليه. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على قراءته للقرآن بالطريقة الوحيدة التي عرفها: حرفيا.

حفظ أبو الدرداء القرآن كاملا في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم. وعلّم ألفا وستمائة شخصًا قراءة القرآن الكريم في دمشق وحدها.[12] وكلّف عشرا من تلامذته تعليم عشرة آخرين، وعندما يتقن واحد من هؤلاء العشرة القراءة، يترفع ليأخذ من أبي الدرداء مباشرة. لا نجد في دمشق تلامذة يقرؤون (طعام الفاجر) بدلا من (طعام الأثيم). فكل ما نجده رواية واحدة فيها أن أعجميا لم يكن بمقدوره القراءة بالعربية.

كما كان أبو الدرداء شديد الحرص في كيفية الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن متأكدا من اللفظ الدقيق، كان يقول: (أو نحوه) في نهاية الحديث، خوفا من نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم شيئا لم يقله.[13] فكيف يُتهم باستبدال ألفاظ القرآن؟!

 

المصادر:

أحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية / القاهرة، ط2: 1384هـ.

تاريخ دمشق، ابن عساكر، دار الكتب العلمية / بيروت، 2012.

جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1412هـ.

سنن سعيد بن منصور، سعيد بن منصور، دار الألوكة / الرياض، ط1: 1433هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام / الرياض، ط2: 1419هـ.

المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، المكتبة العصرية / بيروت، 2006.


 

[1]  سنن سعيد بن منصور 7/326

[2]  سنن سعيد بن منصور 7/326

[3]  تفسير الطبري 11/243

[4]  تفسير الطبري 11/243

[5]  مستدرك الحاكم 4/1380-1381

[6]  بإشراف د. سعد الحميد ود. خالد الجريسي.

[7]  سنن سعيد بن منصور 7/326.

[8]  الرواية التي ذكرها الأنباري هي متطابقة إلى حد كبير مع رواية أبي الدرداء السابقة، إلا أنه ثمة انقطاع إذ لم يسمع ابن عون من ابن مسعود، ثم إن التشابه بين الروايتين تشعر بأن الحادثة واحدة، فرواية أبي الدرداء هي الثابتة.

[9]  أحكام القرآن 16/149.

[10]  الانتصار ص325.

[11]  صحيح البخاري (6278)

[12]  تاريخ دمشق 1/223

[13]  تاريخ دمشق 25/505-506

بسم الله الرحمن الرحيم

 

اطلعت على كلام صالح الراجحي فيما يتعلق بتجريد مصاحف عثمان رضي الله عنه من النقط ووجدت فيه قصورا في الفهم وقلة اطلاع. فهو ينكر أن الصحابة جردوا المصاحف من النقط، وأنهم لم يعرفوا التنقيط قبل كتابة المصحف أصلًا، وأنكر أن عثمان رضي الله عنه قصد جعل الرسم يحتمل عدة قراءات.

قال: (ولو كان يريد أن يثبت مصحفًا يحوي كلمات تحتمل قراءات متعددة ولم يبين بالضبط نوع تلك القراءات وليس في الرسم ما يحدد كيفية نطقها بوضوح فإنه بذلك لم يلغ الخلاف فكأنه لم يصنع شيئًا، وهذا بعيد جدًا.)[1]

قلت: هذا كلام غريب، فما الذي صنع عثمان في نظر الراجحي إذ قرأ الناس بقراءاتهم بعد أن كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف؟ هل فشلت اللجنة في مهمتها لتوحيد الناس حيث أنهم لم يفطنوا بأن خلو المصاحف من النقط قد يؤدي إلى الاختلاف؟ وهل يُعقل أن عثمان لم يكن يعرف أن رسمه يحتمل أوجها غير التي أرادها؟ وهل يخفى هذا عن عاقل؟!

قال حذيفة رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى![2]

فهل نجح عثمان رضي الله عنه فيما شرع إليه؟

قال علي رضي الله عنه: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل.[3]

فهل غفل علي رضي الله عنه عن اختلاف الناس في القراءة بعد جمع عثمان رضي الله عنه؟

قال الراجحي أن عثمان رضي الله عنه (لم يرد أن يختلف الناس في القراءة مذاهب شتى، وإن كان هذا حصل تلقائيًا حين كان رسم المصحف غير منقوط ولا مشكول لأن الكتابة حينذاك لم تكن تنقط أصلًا.)[4]

والرد على كلامه من وجهين:

 

الوجه الأول: معرفة الصحابة للنقط قبل زمن كتابة المصحف.

ويدل على ذلك صحيفة ابن حديد التي كُتبت سنة 22هـ التي فيها نقاط الإعجام في النون والجيم والخاء والذال والزاي والشين، وهي محفوظة في المتحف الوطني في النمسا.[5]

ويؤيده نقش زهير الموجود في مدائن صالح وقد كُتب في سنة 24.[6]

ويؤيده أيضًا التنقيط الموجود في النص السفلي من مصحف الـ(بالمبسست) بصنعاء، وهو أقدم من مصحف عثمان رضي الله عنه، حيث أنه يشتمل على أحرف مختلفة أخرى كحرف ابن مسعود وأُبي وغيرهما.[7]

يقول حفني ناصف: (إنا نجد للباء والتاء والثاء مع اختلافها في النطق صورة واحدة وكذلك الجيم والحاء والخاء وللدال والذال وهلم جرا ويبعد كل البعد أن تكون الحروف موضوعة في أول أمرها على هذا اللبس المنافي لحكمة الوضعين الذاهب بحسن الاختراع فأما أن يكون لكل حرف شكل مخالف لسائر الحروف ثم اتحدت الاشكال المتقاربة وصارت شكلا واحدًا بتساهل الكتّاب وطول الزمن. وأما أن يكون بعض الأشكال موضوعًا لعدة أحرف ووضع الإعجام معها لتمييزها بعضها عن بعض وقد ثبت مما نقلناه عن المؤرخين أن الروادف وهي أحرف (ث خ ذ ض ظ غ) لم يكن لها صورة في الخط الفينيقي الذي هو أساس الخط العربي فلا بد أن يكون واضع الحروف العربية أخذ لها صورة الباء والجيم والدال والصاد والطاء والعين ووضع لها النقط لتمييز المأخوذ عن المأخوذ منه.)[8]

فهذه الأمور كافية لإثبات وجود نقاط الإعجام في تلك الفترة وبذلك نستطيع أن نجزم بأن عثمان رضي الله عنه جرد المصاحف من النقط عمدا.

 

الوجه الثاني: وجود الاختلافات في المصاحف الموجهة إلى الأمصار.

والأمثلة على ذلك معروفة كـ(سارعوا) و(وسارعوا) و(ولا يخاف) و(فلا يخاف) وزيادة (من) في سورة التوبة وزيادة (هو) في سورة الحديد.

فيقول الراجحي متحيرًا: (هذه الزيادات لا يمكن الجزم بأنها مقصودة من أجل الاختلاف في القراءات، فإنه من المعلوم أن الوجوه المخالفة للرسم من القراءات أكثر بكثير من هذه الحروف المعدودة التي اختلف رسمها في المصاحف.)[9] وقال: (ومما يدل أيضًا على هذه الحروف التي زادت في بعض المصاحف العثمانية ليس الغرض منها اختلاف القراءة أنه قد كتبت كلمات في المصحف فيها زيادات حروف أو نقصها، وليس لها علاقة باختلاف القراءة، وقد تكتب الكلمة برسم معين ثم تكتب هي نفسها في مواضع آخر برسم مختلف. ومن الأمثلة على ذلك: في سورة النمل رقم (21) (لأاذبحنه) بزيادة الألف في حين أن كلمة (لأعذبنه) في الآية نفسها كتبت بدون ألف…)[10]

 قلت: ثم سرد أمثلة معروفة اصطلح الراسمون على رسمها بشكل تخالف قراءتها، ولا علاقة لها بما صنعه عثمان رضي الله عنه ولجنته.

فيسأل الراجحي: هل أراد عثمان عندما زاد كلمة (هو) في سورة الحديد في مصاحف الحجاز والشام أن تُقرأ أم لا؟ فإن لم يشأ ذلك فهي مصيبة إذ غفل عن مقصده قراء الحجاز والشام حينما قرأوا بها. وهذه ليست معضلة لكي يأتي الراجحي بهذا الكلام المتهافت، فالواقع أسهل من هذا بكثير وهو أن عثمان رضي الله عنه أراد حفظ بعض الاختلافات، وإن كان الأصل جمع الناس على رسم واحد.

ومن الملفت للنظر أن عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار ما يوافق قراءتهم. قال المهدوي: (وإنما أقر عثمان، ومن اجتمع على رأيه من سلف الأمة، هذا الاختلاف في النسخ التي اكتتبت وبعثت إلى الأمصار، لعلمهم أن ذلك من جملة ما أُنزل عليه القرآن، فأُقر ليقرأه كل قوم على روايتهم.)[11]

وبهذا الرسم استطاع عثمان رضي الله عنه أن ينهي التنازع الذي حصل بين أهل الأمصار، إذ أنه أرسل إليهم مصاحف موثقة صدرت من لجنة يرأسها كاتب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه. فإذا اختلف اثنان فقرأ أحدهم (فتثبتوا) وقرأ الآخر (فتبينوا) رجعا إلى المصحف، فوجدوا الرسم يؤيد القراءتين، فينتهي النزاع. فليس الهدف من جمع الناس على رسم حرف، إلغاء جميع القراءات الأخرى، ولكن الهدف منه إنهاء النزاع بحصرها.

 

أقوال أهل العلم

وبقي هنا أمر واحد، وهو أن الراجحي نقل بعض النصوص من مجموعة من أهل العلم توهم بأنهم رأوا أن عثمان رضي الله عنه لم يرد حفظ الاختلافات.

فنقل مثلًا عن مكي رحمه الله قوله في الإبانة: (فلا بد أن يكون عثمان رضي الله عنه إنما أراد لفظًا واحدًا لكنا لا نعلم ذلك بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط لنتحرى مراد عثمان رضي الله عنه ومن تبعه من الصحابة وغيرهم. ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه ليس مما أراد عثمان، فالزيادة لابد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فإن لم تكن كذلك وقد صح أن عثمان لم يردها كلها إذ كتب المصحف إنما أراد حرفًا واحدًا فهي إذا خارجة عن مراد عثمان وعن السبعة أحرف… وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف. ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول: لعل الذي تركت هو الذي أراد عثمان، فلا بد أن يكون ذلك من السبعة أحرف التي نزل بها القرآن على ما قلنا.)

ثم قال: (وهذا النص من كتاب (الإبانة) للإمام مكي رحمه الله صريح في أن عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام إنما أرادوا لفظًا وقراءة واحدة بالحرف الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.)[12]

قلت: وهذا الكلام لا يُفهم منه أن عثمان رضي الله عنه أراد مسح جميع القراءات إلا واحدة، وليس فيه إلا أنه أراد قراءة واحدة، ورسم المصحف بناء على تلك القراءة. ولمكي كلام غير هذا يدل على أن عثمان أراد جمع الناس على ما وافق رسم حرف قريش، فقال: (فلما كتب عثمان المصاحف ووجهها إلى الأمصار، وحملهم على ما فيها، وأمرهم بترك ما خالفها، قرأ كل مصر مصحفهم الذي وُجه إليهم على ما كانوا يقرؤون قبل وصول المصحف إليهم، مما يوافق خط المصحف الذي وُجه إليهم، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها مما خالف خط المصحف.)[13]

وقال أيضًا: (وكان المصحف إذ كتبوه لم ينقطوه ولم يضبطوا إعرابه، فيمكن لأهل كل مصر أن يقرأوا الخط على قراءتهم التي كانوا عليها مما لا يخالف صورة الخط.)[14]

قلت: فلو قصد مكي أن يقول أن ما كان لعثمان رضي الله عنه أن ينقط ويضبط الإعراب لعدم اختراع ذلك في زمنه لصرح بذلك، فظاهر نصه يدل على أن ترك التنقيط كان بقصد إمكان تأويل النص.

وكان مكي يصحح قراءة ما اختلفت المصاحف فيه وينسب ذلك الاختلاف إلى عثمان رضي الله عنه، وهذا صريح في أنه لا يرى أن عثمان أراد مسح جميع القراءات الأخرى من الوجود.[15]

ثم نقل الراجحي من أبي شامة كلامه الآتي: (اختار الصحابة رضي الله عنهم الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته وترك الباقي للخوف من غائله، فالمهجور هو ما لم يثبت إنزاله، بل هو من الضرب المأذون فيه بحسب ما خف وجرى على ألسنتهم.)[16]

قلت: وهذا القول لأبي شامة جاء بعد قوله: (وما اختلفت فيه المصاحف حذفًا وإثباتًا، نحو (من تحتها) (هو الغني)، (فبما كسبت أيديكم) فمحمول على أنه نزل بالأمرين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته على الصورتين لشخصين أو في مجلسين، أو أعلم بهما شخصًا واحدًا وأمره بإثباتهما.)[17]

وهذا صريح بأن أبا شامة يرى أن عثمان رضي الله عنه لم يرد إلغاء جميع القراءات.

 

وفي الختام أود أن أنبه القارئ بأن موضوع جمع عثمان رضي الله عنه للمصحف لإنهاء النزاعات يشكل عائقًا للراجحي الذي يرى أن الأحرف السبعة هي مجرد رخصة للقراءة بالتشهي، وسأذكر ملاحظاتي بالنسبة لذلك في موضع آخر إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المصادر:

الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب، كتاب – ناشرون / بيروت، ط1: 1432هـ.

حياة اللغة العربية، حفني ناصف، مكتبة الثقافة الدينية / بور سعيد، ط1: 1423هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع / الرياض، ط2: 1419هـ.

المحرر الوجيز، ابن عطية، ت: وليد الطبطبائي، مكتبة الإمام الذهبي / الكويت، 1413هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

المصاحف، ابن أبي داود، ت: محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر / بيروت، ط2: 1423هـ.

هجاء مصاحف الأمصار، المهدوي، ت: حاتم الضامن، دار ابن الجوزي / الدمام، ط1: 1430هـ.


 

[1]  المسائل الكبرى ص256.

[2]  صحيح البخاري ص894.

[3]  المصاحف 1/217.

[4] المسائل الكبرى ص257.

[5]  “PERF No. 558 – One of the Earliest Bilingual Papyrus from 22 AH / 643 CE.” Islamic Awareness. Nov. 2, 2000,www.islamic-awareness.org/history/islam/papyri/perf558.

[6] “The Inscription of Zuhayr.” Islamic Awareness. Jan 21, 2006. https://www.islamic-awareness.org/history/islam/inscriptions/kuficsaud.html

[7] Sadeghi and Goudarzi, Sana’a 1 and the Origins of the Quran. pp. 116-122.

[8]  حياة اللغة العربية ص88-89.

[9]  المسائل الكبرى ص263

[10]  المسائل الكبرى ص264.

[11]  هجاء مصاحف الأمصار 102-103.

[12]  المسائل الكبرى ص255.

[13]  الإبانة ص148.

[14]  الإبانة ص163.

[15]  الإبانة ص168.

[16]  المسائل الكبرى ص259.

[17]  المحرر الوجير ص324.

بسم الله الرحمن الرحمن

وقفت على كلام صالح بن سليمان الراجحي في نفيه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة فوجدته يضع النصوص في غير محلها، مستخرجا منها استنتاجات لا علاقة لها بمراده، وغايته كما هو معلوم إنكار نسبة الأحرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوصفها بالرخصة العامة وأنها ليست وحيا. فعلم عندما كتب ما سطره من التراهات أن القارئ سيعترض بالإشارة إلى ما يدل على أن القراءة سنة في الكلمات والأداء، فجمع ما استطاع من الأدلة على نفي الإمالة ابتداءً بقوله: (لو كانت القراءة بالإمالة قد وقعت من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا بد أن تنقل وتذكر بكل وضوح، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل كل ما يتعلق بكيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن).[1]

هنا يطالب الراجحي بنصوص صريحة، يقول فيها الصحابي: (هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة)، وأما قراءة الصحابي نفسه بالإمالة فغير مقبولة عنده، إذ أن من يفعل ذلك يفعله من تلقاء نفسه، فأقول أن الصحابي عندما يقرأ بالإمالة، فهذا يكفي لنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقرأ التابعي بالإمالة فذلك ما أخذ من شيخه الصحابي وإن لم يصرح بذلك.

والصحابة كتبوا المصاحف، فجعلوا الياءات في موضع الألفات، فكتبوا (مجريها) بالياء لتحتمل الإمالة، فقرأ بذلك حفص عن عاصم وورش عن نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي موافقة لخط المصحف واتباعًا للأثر. فلو كانت القراءة بالإمالة بدعة لكان السبب في نشرها الصحابة لاتفاقهم على رسم هذه الكلمة وغيرها بالياءات.

 

ثبوت الإمالة

يقول الراجحي: (إن الذين اشتهروا بالإمالة من القراء هم من وجدوا في بيئة أهلها لهجتهم الإمالة)[2]، وهذا صحيح، ولكن كيف نفسر من قرأ بالإمالة مخالفة لبيئته؟ فالقراءة بالإمالة ثابتة عن ابن عامر الشامي  ونافع المدني. وقرأ حفص (مجريها) بالإمالة وقراءته قراءة عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.

قال الراجحي معلقًا على ذلك: (الذي يبدو والله أعلم أن هذه الإمالة الفريدة قد أتت إلى قراءة حفص من الإمالات التي في قراءة أبي بكر. فإما أن يكون مصدرها الإمام عاصم نفسه حين أقرأ حفصًا. أو أنه اختيار واستحسان من حفص في هذا الموضع، اقتباسًا من الإمالات التي في قراءة أبي بكر. وهذا الاحتمال الثاني هو الأقرب والله أعلم).[3]

ولا أدري ما علاقة ذلك بأبي بكر إذ أنه لم يقرأ بالإمالة في هذا الموضع فهذا مردود.[4]

ثم قال: (وقد ذكر بعض المتخصصين أن حفصًا كانت له طريقة لطيفة في اختياراته، وهي أنه عندما يختار قاعدة ليسير عليها في قراءته يتعمد أن يخالفها في موضع أو مواضع قليلة لينبه على القراءات المخالفة له).[5]

هب أنّا سلّمنا بذلك، أين الدليل على أن حفصًا لم يقرأ بذلك نقلًا عن عاصم؟! وهذا فهم المتخصص الذي نقل عنه الراجحي – وهو الشيخ وليد المنيسي – الذي قال في مشاركته: (هذا مع تأكيدنا على أن حفصا وغيره من القراء ما كانوا يقرؤون بشيء لم يقرئهم به مشايخهم بالسند المتصل إلى رسول الله عن جبريل عن رب العالمين سبحانه ، وإنما كانوا يتخيرون من بين الأوجه الكثيرة التي قرؤوا بها فيختارون القراءة بهذا الوجه في موضع ، وبالوجه الآخر في موضع آخر ، وكلها كاف شاف) [6].

وهذا حفص يصرح بأنه لم يخالف عاصمًا إلا في كلمة واحدة، وهي (ضعف)[7] مع خلو هذا اللفظ من اختلاف في المعنى.[8]

ثم قال الراجحي: (فالذي ينبغي الجزم به أن قراءة أبي عبد الرحمن السلمي التي تلقاها من علي وعثمان ليس فيها الإمالة البتة لا في (مجراها) ولا غيرها)[9]، وهذا كلام يفتقر إلى الدليل فلا يُلتفت إليه إذ الظاهر أن حفصًا تلقاه من شيخه عاصم، الذي تلقاه من شيخه السلمي، الذي تلقاه من كبار الصحابة.

ويضاف على جميع ما تقدم أن نافعًا عُرف عنه الإمالة إلا أن الراجحي اعترض على ذلك بقوله: (ينبغي أن يُعلم أن الإمالات الكثيرة التي في قراءة ورش وهو أحد الرواة عن نافع لم يأخذها ورش عن نافع، فإن الإمام نافع لم يعرف بالإمالة البتة، فهو مدني، ولم يكن أهل المدينة ممن يميلون، بل لهجتهم خالية من الإمالة تمامًا).

وقال: (أن الذين قرؤوا على نافع قراء كثر لم تشتهر الإمالة عن أحد منهم غير ورش، وعلى رأسهم قالون).[10]

قلت: لا أدري ما قصد الراجحي بقوله يشتهر هنا، فهل قصد أن قالون لم يكثر من الإمالة؟ هل قصد بذلك أنه ليس في قراءة قالون أي مثال للإمالة؟ فلو كان ذلك قصده فهو غير صحيح، فقد قرأ (جرف هار) بالإمالة.[11]

وإن كان يقصد بقوله (لم يشتهر) أنه لم يكثر، فهذا صحيح، إلا أن هذا دليل عليه وليس له، إذ وجود في رواية القارئ ما يخالف أصله في القراءة دليل على أنه تلقاه.

ثم أن الراجحي حيّر القارئ بالمطلوب، فكنا إذا أشرنا إلى المكثرين من الإمالة قال: (هذا يدل على اجتهاده)، وإذا أشرنا إلى المقللين من الإمالة قال: (هذا لا يكفي لإثبات الإمالة). فما المطلوب إذًا؟َ!

ويُضاف إلى جميع ذلك أنه ثبت عن نافع قراءته بالإمالة بين بين في مواضع كثيرة، كما في رواية إسماعيل بن جعفر والمسيبي.[12] 

قال السيوطي: (أما من أمال فكل القراء العشرة إلا ابن كثير فإنه لم يمل شيئا في جميع القرآن).[13]

وهذا يكفي القارئ المنصف، إذ يبعد اتفاق هؤلاء على الإمالة مع اختلاف أمصارهم ومشايخهم لو لم يكن ذلك من باب التلقي.

 

اعتراضات الراجحي

ومن جهة أخرى حاول الراجحي أن يطعن في الإمالة بنقل ما ذكره أهل العلم في نقدهم لقراءة حمزة، فقال: (ليس الإمام أحمد وحده هو من كره الإمالة، فقد كرهها جمع كبير من كبار علماء الأمة المحققين، كالإمام مالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي بكر بن عياش، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن قتيبة، وبشر بن الحارث، ويعقوب بن شيبة، وعلي بن المديني، والساجي، والأزدي، وابن دريد، وحماد بن زيد، وغيرهم).[14]

وعند الرجوع إلى النصوص التي نقلها الراجحي نجد التالي:

ذكر الراجحي مجموعة من العلماء ممن عاب على حمزة قراءته مع عدم ذكرهم للإمالة كأمثال: أبي بكر بن عياش، وابن مهدي، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وسفيان بن عيينة، وابن قتيبة، وبشر بن الحارث، وعلي بن المديني، والساجي، والأزدي، وابن دريد، وحماد بن زيد، إلا أن ليس في كلامهم ما يدل على كراهية الإمالة.[15] كيف ذلك وأبو بكر بن عياش اشتهر بالإمالة؟![16] وكان ابن قتيبة يقدم الإمالة على التفخيم في مواضع فلا ينبغي أن يحمل كلامه في حمزة على هذا.[17] وقد ذكر عن أهل العلم أسباب أخرى عيبت من أجلها قراءة حمزة كالإفراط في المد والهمز والإشباع والإفحاش في الإضجاع في الإدغام،[18] فكيف يُحمل كل نقد مُجمل على أنه إنكار للإمالة؟!

وأما كراهية مالك للإمالة ليس موجود في كلامه ولو وجد لما اكتفى الراجحي بنقل ذلك عن ابن عاشور.[19]

وأما يعقوب بن شيبة، فلم يطعن في الإمالة بنفسه ولكن ذكره عن غيره من أهل العلم، وقال أن ذلك (لإفراطه في الكسر وغيره)، أي للإفراط في الإمالة، وأما مجرد وجود الإمالة فلم يرد أن أحدا طعن بها.[20]

وأما كلام الإمام أحمد فصريح على أنه رجع عن كلامه في قراءة حمزة، قال محمد بن الهيثم: سألت أحمد ما تكره من قراءة حمزة؟ قال: الكسر والإدغام، فقلت له: حدثنا خلف بن تميم، قال: كنت أقرأ على حمزة فمر به سفيان الثوري فجلس إليه وسأله عن مسألة، فقال له: يا أبا عمارة أما القرآن والفرائض فقد سلمناها لك. قال أحمد: أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به.

قال أبو يعلى: ظاهر هذا الرجوع عن الكراهة والذي عليه أصحابنا الكراهة).[21]

ثم اعترض الراجحي بقوله: (ما نقله محمد بن الهيثم ليس صريحًا في رجوع الإمام أحمد عن كراهته للإمالة، بل هو كلام عام يفيد أن الإمام أحمد يوافق سفيان الثوري في أن حمزة رحمه الله من أئمة القراءة، ولكن هذا لا ينفي النقد).[22]

قلت: وكيف لا يُعتبر هذا تراجع ولم يذكر محمد بن الهيثم هذا الأثر إلا ليرد على الإمام أحمد، فقبله منه، وأقر أحمد بخطأه؟!

وأود أن أنبه القارئ على كلام أبي يعلى الذي تغافل عنه الراجحي، قال: (وكراهته لا يخرجها عن أن تكون قراءة مأثورة لكن غيرها من اللغات أفصح وأظهر).[23]

ويُضاف على جميع ذلك أن الإمام أحمد لم ينكر على أحد من أهل العراق إلا حمزة، وكان يُعرفون بالإمالة، ويفضل قراءة الأعمش على قراءة حمزة،[24] مع وجود الإمالة في قراءته أيضًا.[25]

ولم يبق إلا قول علي بن المديني، لو فرضنا صحته، فيُحمل على ما قصده أبو يعلى.

 

ومما استدل به الراجحي على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بالإمالة إنكار بعض أهل العلم لإمالاته، فقال: (فإذا كان ابن[26] قتيبة بهذه المنزلة من الكسائي وأنه من أكثر الناس ملازمة له ومع ذلك تكلم الناس في إمالاته وأنها من اختياره ووضعه وسموها (إمالة قتيبة) فماذا يعني هذا؟ إن هذا مما يدل على أن الإمالات إنما هي من بعض القراء رحمهم الله، وأنها من لهجات العرب المعروفة، وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم كما قال الفارسي. إنه يؤكد بكل وضوح ما ذكرته من أن تلك الإمالات لم تكن منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه، وإنما هي من لهجات بعض القراء رحمة الله عليهم أجمعين.)[27]

قلت: بل اعتراضهم على إمالة قتيبة كان من أجل تفرده بها، ولو لم يتفرد بها لما تكلم في إمالاته أحد، وهذا يدل على قبولهم لأصل الإمالة. وهذا كالاعتراض على من صلى في المقبرة إذ ليس الإنكار على الصلاة نفسها ولكن على الموضع الذي كانت الصلاة فيه.

 

وذكر الراجحي أمورًا أخرى واهية لم أر أنها تستحق الرد، إذ ليست صريحة في إنكار سنية الإمالة، كتعليل بعض القراء لقراءتهم بالإمالة،[28] وكأن التعليل يدل على عدم ثبوت نسبة الإمالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يستغرب ممن له اطلع على كتب توجيه القراءات، فهي ملئية بالعلل التي من أجلها اختار فيها القراء اختياراتهم.

ومنها ما يستحق الرد ولكنها ترتبط  بأمور ينبغي الرد عليها في مشاركة منفصلة كعلاقة الإمالة بالأحرف السبعة.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

المصادر:

الاتقان في علوم القرآن، السيوطي، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429هـ.

أدب الكاتب، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1408هـ.

تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ت: سعد بن نجدت عمر، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1432هـ.

التعريف في اختلاف الرواة عن نافع، الداني، ت: محمد السحابي.

جامع البيان في القراءات السبع، الداني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1426هـ.

السبعة في القراءات، ابن مجاهد، ت: شوقي ضيف، دار المعارف / القاهرة، 1972م.

طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1417هـ.  

مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، أحمد بن حنبل، ت: زهير شاويش، المكتب الإسلامي / بيروت، ط1: 1401هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

معاني القراءات، أبو منصور الأزهري، ت: محمد بن عيد الشعباني، دار الصحابة / طنطا، ط1: 2007م.

النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، دار الكتب العلمية / بيروت، 2011م.

نظم الجمان في قراءة الأعمش ابن مهران، توفيق إبراهيم ضمرة، دار الماهر بالقرآن / القاهرة، 1433هـ


 

[1]  المسائل الكبرى ص497.

[2] المسائل الكبرى ص 504.

[3]  المسائل الكبرى 541.

[4]  السبعة ص333.

[5]  المسائل الكبرى 541.

[6]  https://vb.tafsir.net/forum/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85/%D9%85%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D9%88%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%AD%D9%81-%D9%88%D8%B6%D8%A8%D8%B7%D9%87/1266-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%B8%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%81%D8%B5-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7

[7]  جامع البيان ص532.

[8]  معاني القراءات للأزهري ص 393.

[9]  المسائل الكبرى ص542.

[10]  المسائل الكبرى ص 507.

[11]  التعريف ص69.

[12]  التعريف ص70.

[13]  الاتقان ص196.

[14]  المسائل الكبرى ص517 – 518.

[15]  المسائل الكبرى ص511- 515.

[16]  المسائل الكبرى ص541.

[17]  أدب الكاتب ص181.

[18]  تأويل مشكل القرآن ص79.

[19]  المسائل الكبرى ص511.

[20]  المسائل الكبرى ص512.

[21]  المسائل الكبرى ص517.

[22]  المسائل الكبرى ص518.

[23]  طبقات الحنابلة 1/300.

[24]  مسائل الإمام أحمد ص83.

[25]  نظم الجمان في قراءة الأعمش ابن مهران ص21-24.

[26]  والصحيح: قتيبة.

[27]  المسائل الكبرى ص528 – 529.

[28]  المسائل الكبرى ص523.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بعد الوقوف على كلام بعض المعاصرين وما نسبوه إلى المتقدمين من القول بالقراءة بالمعنى وجواز إبدال الإلفاظ من باب التشهي، نظرت فيما سرده العلماء المتقدمون والمتأخرون من أقوال في تعريف الأحرف السبعة، فاستوقفني عدم ذكرهم لهذه النظرية الشاذة. وهذا ما يخالف صنيعهم في مسألة مشابهة، ألا وهي رواية الحديث بالمعنى واللفظ، فنجد الخطيب البغدادي يسرد الآثار لمن تمسك بهذين المذهبين. ومنها قول ابن عون: (أدركت ستة، ثلاثة منهم يشددون في الحروف، وثلاثة يرخصون في المعاني، وكان صاحب الحروف القاسم بن محمد ورجاء بن حيوة ومحمد بن سيرين، وكان أصحاب المعاني الحسن والشعبي والنخعي.)[1] فخلو مؤلفات العلماء من مثل هذه المعلومات بالنسبة للقراءة بالمعنى أوصلنا إلى احتمالين اثنين: الأول: اتفاق القراء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم على أن القراءة ما كانت إلا بالتلقي، والثاني: اتفاقهم على القراءة بالمعنى. ولو كانت المسألة خلافية لدُوِّن ذلك.

فالقول الأول المشهور وعليه جماعة من الصحابة والتابعين، قولهم بأنّ: القراءة سنة،[2] واشتهر عن جماعة  منهم التمسك بقراءات مشايخهم، فهناك من صرح بأنه لم يخالف شيخه في كلمة كأبي عبد الرحمن السلمي مع علي،[3] وما خالف عاصم شيخه أبا هو عبد الرحمن إلا في كلمة،[4] وكذلك حال حفص مع عاصم.[5]

وأما القول الثاني فلم يأت في نص صريح عن القراء، إلا أنا نجد المعاصرين ينسبون إليهم هذه الأقوال. بل نجد للأسف الشديد من تسرع فنسب هذا القول إلى طائفة كمالك والشافعي ويحيى بن سعيد والزهري وأبي عوانة والطحاوي، ثم جماعة ممن جاء بعدهم كالسمرقندي وابن جني وأبي شامة وابن التين وابن الجزري وابن حجر.

فلكثرة هذه الأقوال المنسوبة قد يظن الظان أنه قول الجمهور والله المستعان، والواقع على خلافه، فها هو ابن حبان (354هـ) يسرد أقوال العلماء في تحديد الأحرف السبعة فذكر خمسة وثلاثين قولًا ليس منها ما يدل على أن الأحرف السبعة رخصة للقراءة بالمرادف. فهل خُفي على ابن حبان أشهر وأصح الأقوال كما يدعيه المنتصرون للقراءة بالمعنى فقدَّم عليها خمسة وثلاثين قولًا؟[6]

ثم جاء ابن الجوزي، فقال: (وقد ذكر أبو حاتم بن حبان الحافظ أن العلماء اختلفوا في معناه على خمسة وثلاثين قولًا، فذكرها. وفيها ما لا يصلح الاعتماد عليه في توجيه الحديث. وذكر غيره غيرها. وأنا أنتخب من جميع الأقوال ما يصلح ذكره وأُبين الأصوب إن شاء الله.)[7]

قلت: ولم يذكر القراءة بالمرادف.

ثم جاء من بعده السيوطي (911هـ) وجعل الأقوال ستة عشر وليس فيه إشارة إلى وجود القراءة بالمرادف أيضًا، إلا أنه ذكر في القول الثاني ما يحتج به بعضهم فقال: (الثاني: أنه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ (السبعة) يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في العشرات، والسبعمئة في المئين، ولا يراد العدد المعين. وإلى هذا جنح عياض ومن تبعه.)[8]

قلت: سلمنا أن رد ظاهر الحديث وتأويل العدد إلى المجاز من شروط القراءة بالمعنى إلا أنه ليس سوى جزء من النظرية، إذ لا تعارض بين ذلك القول مع كون القراءات مأخوذة بالتلقي من النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا موقف القاضي عياض الذي صرح بالآتي: (استقر الإجماع على منع تغيير القرآن، ولو زاد أحد من المسلمين في كلمة منه حرفًا واحدًا أو خفف مشددًا أو شدد مخففًا لبادر الناس إلى إنكاره، فكيف بإبدال كثير من كلماته؟)[9]

وليعلم القارئ أن القاضي عياض لم يصح عنه الانتصار للقول بأن العدد سبعة مجازي ولكن قاله وهو يستعرض الأقوال، فقال: (فقيل هو: حصر العدد، وهو قول الأكثر، وقيل: توسعة وتسهيل لم يقصد به الحصر.)[10]

قلت: ومن الملفت للنظر أن السيوطي لم يجد هذا القول مذكورا عند المتقدمين، فالقاضي من أهل القرن السادس، فهو قول متأخر جدًا، ولا ينبغي الالتفات إليه إذ لم يذكره ابن حبان ولا قاله أحد ممن نُسب إليه القول بالقراءة بالمعنى.

ومما نجده أيضًا في الإتقان أن السيوطي لم يفرق بين مذهب الطحاوي ومذهب غيره في معنى الأحرف السبعة،[11] واكتفى بوصفه بكونه سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، فجعل الطحاوي في صف الباقلاني وهو ممن اشتهر عنه القول بأن القراءات ما كانت إلا بالتلقي.[12] خصصت الطحاوي هنا بالذكر لكونه أكثر من اتُهم بهذا القول عند بعض المعاصرين هداهم الله.

وكما سبق مع ابن حبان، لا يُعقل أن يكون القول بالقراءة بالمرادف مذهبًا مشهورًا معتبرًا، ثم يخفى عن السيوطي فلا يشير إليه من قريب ولا من بعيد، فيستفاد من هذا أن نسبة هذا القول لمن تقدم من العلماء باطل جزمًا وهو مبني على أوهام بعض المعاصرين.

والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر:

الاتقان في علوم القرآن، السيوطي، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429هـ.

إكمال المعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض، دار الوفاء / المنصورة، ط1: 1419هـ.

الانتصار، الباقلاني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1433هـ.

جامع البيان في القراءات السبع، الداني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1426هـ.

السبعة في القراءات، ابن مجاهد، ت: شوقي ضيف، دار المعارف / القاهرة، 1972م.

فنون الأفنان في عيون علوم القرآن، ابن الجوزي، دار البشائر / بيروت، ط1: 1408هـ.

الكفاية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس / سمنود، 2002م.

معرفة القراء الكبار، الذهبي، دار الصحابة / طنطا، ط1: 1428هـ.


 

[1]  الكفاية 1/553

[2]  السبعة ص50-52

[3]  معرفة القراء الكبار ص18

[4]  جامع البيان ص609

[5]  جامع البيان ص532

[6]  الإتقان ص110-112.

[7]  فنون الأفنان ص200

[8]  الإتقان ص105

[9]  إكمال المعلم 3/191-192

[10]  إكمال المعلم 3/187

[11]  الإتقان ص107

[12]  الانتصار ص284-285

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن أحاديث إقراء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقراءات متعددة صريحة صحيحة، لا تحتاج إلى زيادة شرح أو توضيح. والراجحي وإن كان ممن يرى بأن القراءات هي مجرد رخصة للقراءة بالمرادف إلا أنه يقر بهذه الحقيقة. قال: (وسبب إنتشار هذا القول عند المتأخرين ورود بعض النصوص التي ظاهرها يفهم منه أن الأحرف والقراءات كلها منزلة من عند الله.)[1]

ومن أوضح الروايات ما جاء عن أُبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال له: (إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن  على سبعة أحرف.) إلا أن الراجحي اعترض على هذا اللفظ وقال أن الصحيح منه: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف.) ونقل هذا اللفظ عن مجموعة من المؤلفات الحديثية كصحيح مسلم (821) والنسائي في الكبير (1/326) وابن أبي شيبة (7/182) وخطّأ الروايات الأخرى التي فيها (تُقرئ أمتًك).[2]

وهنا وقع الراجحي في بعض الأخطاء من أجل اعتماده على طبعات غير متقنة من هذه المؤلفات. فمثلا، اعتمد على طبعة دار الكتب العلمية لسنن النسائي الكبير  التي نشرت في عام 1411هـ  وقدّمها على طبعة دار التأصيل 3/167  التي طبعت في 1433هـ. وطبعة دار التأصيل أتقن بكثير واعتمدت على نسخ لم يعتمدها غيرها، وفيها (إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك.)

وذكره الراجحي من طريق آخر، قال: (عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلى به بلفظ (تقرأ) عند ابن أبي شيبة (7/182.)

قلت: وهذا النقل كان من طبعة دار الفكر 1409هـ وفيه سقط كبير ودمج لحديثين.

فطبعة دار الفكر كالآتي: (حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: ((إن الله يأمرك أن تُقرئ  أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما  حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.))

 والصواب أنه روي هكذا: (حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أخبرني أُبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف)).

حدثنا غندر، عن شعبة،  عن الحكم، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: ((إن الله يأمرك أن تُقرئ  أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما  حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.)) [3] 

قلت: والذي سقط هو ما تحته خط، فإن عبد الله بن عيسى لم يرو حديث: (تُقرئ أمتك).

وأصل هذا الاختلاف بين النسخ قديم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا قولًا واحدًا، فينبغي الترجيح بين اللفظين. وكان سبب اختلاف النساخ في ضبط هذه الكلمة يرجع في الأصل إلى تساهلهم في كتابة الهمزة. قال الفراء: (العرب تكتب يستهزئ يستهزأ، فيجعلون الهمزة مكتوبة بالألف في كل حالاتها، يكتبون شي شيأ، ومثله كثير.)[4]  وعند تركهم للتشكيل، يُكتب الحديث هكذا: (تقرأ أمتك،) ثم يأتي الناسخ الآخر فيجعلها (تَقرأ أمتُك.) إلا أن بعض النساخ المتقنين انتبهوا لذلك فجعلوها (تُقرأ أمتَك،) وهو ما نجده في الورقة السادسة من نسخة الإسكندرية من صحيح مسلم مثلًا.

فإن علمنا ذلك فيمكننا أن نقرأ النسخ المهملة برفع تاء (تقرأ) ونصب تاء (أمتك) من غير تردد.

وأما أكثر الكتب المطبوعة فقد جاءت (تُقرئ أمتَك). وذكر منها الراجحي أنها هكذا في سنن أبي داود (1478) ومسند أحمد (35/103) والطيالسي (558) وأبي عوانة (3840) وابن حبان (3/13) وابن عبد البر في التمهيد (8/287).

ومما يرجح لفظ (تُقرئ) سياق الحديث. فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور، والحديث فيه: (أن الله يأمرك،) وليس فيه: (أن الله يأمر أمتك.) فعليه هو صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بالسبعة، ولو كان غير ذلك لقال جبريل: (إن الله يأمر أمتك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف.)

ويرجحه أيضًا زيادة الضبط في بعض روايات الحديث، حيث نجد ابن حبان والشاشي يرويان الحديث بكلا اللفظين معًا.

ففي رواية ابن حبان: (يا محمد إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على حرف واحد… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على حرفين… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على ثلاثة أحرف… إن الله يأمرك أن تقرأ هذا القرآن على سبعة أحرف.)[5]

وأما الذي في الشاشي، فرواه بهذا اللفظ: (إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك على حرفين… إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على ثلاثة أحرف… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك على سبعة أحرف.)[6]

وهاتان الروايتان وإن اختلفتا قليلًا إلا أن الملاحظ عدم ربط الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، فهو المأمور بالقراءة صلوات ربي عليه. وزيادة الضبط هذه تثبت المعنى الظاهر، وهو أن القراءة بالسبعة لم تكن من باب التشهي أو القراءة بالمرادف.

ويؤيد جميع ما سبق ما روي عن ابن عباس كما في صحيح البخاري: (أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل استزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف.)[7] وظاهره كما لا يخفى أن جبريل عليه السلام أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم السبعة كلها.

والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر:

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ابن حبان، دار المعرفة / بيروت، ط1: 1425هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام للنشر / الرياض، ط1: 1419هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

مسند الشاشي، الشاشي، مكتبة العلوم والحكم / المدينة المنورة، ط1: 1414هـ

مصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، دار القبلة /جدة، ط1: 1427هـ.

معاني القرآن، الفراء، عالم الكتب /بيروت، ط: 1403هـ.

 


 

[1]  المسائل الكبرى ص150

[2]  المسائل الكبرى ص225-228

[3]  مصنف ابن أبي شيبة 15/504 ت. عوامة.

[4]  معاني القرآن 3/20.

[5]  الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (738)

[6]  مسند الشاشي (1457)

[7]  صحيح البخاري (3219)