آراء العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حول الأحرف السبعة والقراءات القرآنية

آراء العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
حول الأحرف السبعة والقراءات القرآنية

كتبه: جو برادفورد*

ملخص البحث:

يتناول هذا البحث مسألة الأحرف السبعة والقراءات القرآنية من خلال دراسة آراء العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. يستعرض البحث مفهوم الأحرف السبعة وتفسيرها عند المعلمي، مع التركيز على موقفه من القراءة بالمعنى. يبدأ البحث بتحليل التسلسل الزمني لمؤلفات المعلمي، ثم يستعرض آراءه في كتبه المختلفة، مع التركيز على كتابه (الأنوار الكاشفة). يناقش البحث رؤية المعلمي لنزول القرآن على حرف أصلي وستة أحرف إضافية، ودور جمع عثمان للمصاحف في ضبط هذه الأحرف. كما يتطرق البحث إلى الغموض في بعض عبارات المعلمي التي قد توحي بقبوله للقراءة بالمعنى. وينتهي البحث إلى أن المعلمي يعتبر الأحرف السبعة جزءًا أصيلًا من الوحي، وأنه لا يمكن الجزم بتأييده للقراءة بالمعنى بالمفهوم الواسع. ويخلص البحث إلى أن ما ورد عن المعلمي من كلام قد يوهم قبول القراءة بالمعنى إما أنه مجمل يفسر بكلامه في مواضع أخرى، أو أنه مقيد بشروط وحدود ضيقة، مما يجعل من الصعب اعتباره من مؤيدي القراءة بالمعنى وفق نموذج “الرخصة الإلهية” المطلقة.

 

(تنزيل البحث بصيغة بي دي أف من هنا)


المحتويات

مقدمة: 3

استدلال الكاتب بموقف المعلمي تجاه القراءة بالمعنى 3

رأي الكاتب في الأحرف السبعة 4

نموذج التلقين المراد به تلقي الأحرف 5

نموذج (الرخصة الإلهية) المراد به (القراءة بالمعنى) 6

المفارقات بين رؤية الكاتب وجمهور العلماء 7

رأي الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في الأحرف السبعة ومعناها. 8

التسلسل الزمني لأعمال المؤلف 9

كلامه من (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله): قبل ذي القعدة 1371هـ. 10

كلامه من (التنكيل): الذي كبته في نفس فترة (كتاب العبادة) أو بعده مباشرة. 14

كلامه من (عمارة القبور): بعد انتقاله إلى مكة، بعد 1371هـ. 15

كلامه من (الأنوار الكاشفة): طُبع سنة 1378هـ. 16

هل تبنى المعلمي جواز القراءة بالمعنى؟ 19

ماذا أراد المعلمي بالاستدلال بقراءة القرآن بالمعنى؟ 22

افتراض جواز القراءة بالمعنى عند المعلمي، هل هو مطلق؟ 23

ما هي خلاصة رأي المعلمي في القراءة بالمعنى 24

تنبيه أخير 25

المراجع 26


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن مسألة الأحرف السبعة والقراءات القرآنية من المسائل المهمة التي شغلت العلماء قديماً وحديثاً، لما لها من أثر بالغ في فهم القرآن الكريم وتلاوته. وقد تجددت المناقشات حولها في العصر الحاضر، خاصة مع ظهور بعض الآراء الجديدة التي تحاول إعادة تفسير هذه المسألة. ومن ذلك ما نشره الكاتب والداعية المشهور د. ياسر قاضي في مقال بعنوان: (الأحرف السبعة: دراسة في بيان وجاهة القول بالرخصة الإلهية في الأحرف)[1]. والكاتب تابع فيها ما ذهب إليه صالح بن سليمان الراجحي في كثير من المسائل، مع إضافة استنتاجات جديدة تستدعي النظر والمناقشة.

وفي خضم هذه النقاشات ، قدم الكاتب جملة من الأسماء المعروفة على أنها من مؤيدي نظريته للأحرف. ومن هؤلاء العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، الذي ورد عنه بعض النقول في قضية الأحرف والقراءات وموقف الصحابة منها. لذا، يتناول هذا البحث دراسة آراء المعلمي في مسألة الأحرف السبعة والقراءات القرآنية، مع التركيز على موقفه من القراءة بالمعنى ثم النظر في قرب رأي الكاتب منها أو بعدها.

استدلال الكاتب بموقف المعلمي تجاه القراءة بالمعنى

يقول الكاتب عفا الله عنه:

(يُعثر أيضًا على هذا الرأي، وما يلتحق به، في مؤلَّفات العلماء في فترات لاحقة، وصولًا إلى العصر الحديث. كتب عبد الرحمن بن يحيى المعلمي (توفي 1966)، الذي له سُمعة كمؤيّد صريح لمدرسة أهل الحديث؛ صراحةً أنّ الأحرف تمثل تباينات في الألفاظ تدلّ على قراءات مترادفة، وأحيانًا كان الصحابة يُبدِّلون الكلمات التي لم يسمعوها من النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنّ حال الأمّيين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أنّ ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلام ربِّ العالمين»).

كما يقول الكاتب في تعليقه على كلام المعلمي:

(يُلاحظ أن موقفه يعدّ تعديلًا عن الذي ورد في هذه المقالة: فيدّعي أن حرفًا واحدًا قد أُنزل كحرف أصلي افتراضي، وأن بعض الألفاظ المترادفة قد قرأها جبريل أيضًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي علَّم هذه التباينات للصحابة، لكن ليس كل التباينات التي أتت من الصحابة كانت من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ يذكر صراحة (ص:76) أن الصحابة في بعض الأحيان كانوا يُبدلون بكلماتهم الخاصة، حتى لو لم يكونوا قد سمعوها من النبي -صلى الله عليه وسلم-.)

ومما يلاحظ على الكاتب في ورقته عامة وفي هذا النقل خاصة ، عدم الدقة في نقل كلام من ارتكن إليهم لتأييد نظريته حول الأحرف ، وهذا يتبين للقارئ بوضوح عند قراءة نصوص المعلمي نفسه والتي نقلتها – من باب الأمانة – كاملة لكي يطلع عليها القارئ ويحكم بنفسه.

رأي الكاتب في الأحرف السبعة

يرى الكاتب أن الأحرف وتفسيرها تعود إلى (نموذجين) ففي النص أعلاه يقول (هذا الرأي) أي (رأي القراءة بالمعنى) بزعمه والذي سماه في ورقته: بــــ(نموذج الرخصة الإلهية) الذي هو (…النموذج البديل…) لما سماه (نموذج التلقين).

وعليه فالنموذجان عنده هما :

1- (نموذج التلقين) المراد به تلقي الأحرف ،

2- ونموذج (الرخصة الإلهية) المراد به القراءة بالمعنى.

وإليك بيان ما يريده الكاتب بكل منهما.

نموذج التلقين المراد به تلقي الأحرف

عرف الكاتب (نموذج التلقين) على النحو التالي: (…(نموذج التلقين) هو (الرأي السائد…) في نظر الكاتب، والذي عرفه بأنه: (هو: أنّ الأحرف في الأساس هي اختلافات بين لهجات العرب، وأنّ الخليفة الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- تخلّص متعمِّدًا من معظم الأحرف، ولكنه حافَظَ عن قصدٍ على بعضها بحسب ما سمح به النصّ المكتوب، وأن هذه التباينات المحفوظة شكَّلَت في النهاية أساسًا للقراءات، وأن جميع التباينات ضمن تلك الأحرف، ومن ثَم يمكن القول بأنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تلا جميع هذه القراءات (إجمالًا).).

فعلى مراد الكاتب ، يفترض (نموذج التلقين) أن النبي محمد تلا جميع القراءات بشكل إجمالي، مما يمنحها شرعية نبوية. ومع ذلك، فإن التنوع الموجود حاليًا في القراءات يمثل جزءًا محدودًا فقط من الأحرف الأصلية، وذلك نتيجة لعملية الاختيار التي قام بها عثمان بن عفان. إلا أن هذا التعريف ناقص مما يبقي عند الناظر المنصف تساؤلات حول المراد بها حسب فهم الكاتب الخاص لرأي جماهير العلماء قديما وحديثا. من هذه التساؤلات:

  • هل الكاتب يرى أن الأحرف نشأت من تنوع اللهجات العربية فحسب أم أنها نزلت من عند رب العالمين؟
  • وهل يعتبر تلقي هذه القراءات عن النبي إقرارا منه لها باجتهاد بشري أم تُلقّيتْ عنه على أنها وحي؟
  • وما موقفه من دور الوحي في تحديد هذه الأحرف؟

مما لا شك فيه أن جماهير العلماء على كون الأحرف مصدرها الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها توقيفية من الله تعالى، وليست مجرد نتاج للتنوع اللغوي العربي أو اجتهاد بشري. فهم يرون أن هذه الأحرف جزء لا يتجزأ من الوحي الإلهي، وأن النبي تلقاها عن الله وأن الصحابة تلقوها عنه صلى الله عليه وسلم كما أنزلت عليه، وأن إقراره لها كان بأمر إلهي وليس باجتهاد شخصي.[2]

نموذج (الرخصة الإلهية) المراد به (القراءة بالمعنى)

وأما (نموذج الرخصة الإلهية) – كما عرفه الكاتب – أو (الإذن الإلهي) كما سماه في مواضع فإنه ينطلق من دعوى (… أن (الأحرف السبعة) هي تسهيل إلهيّ سمح للصحابة بتلاوة القرآن وفقًا للهجاتهم وتبعًا لغاية ما يسعهم تذكّره بشرط أن لا يخلّ بالمعنى. في هذا النموذج تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن بطريقة واحدة (حرف واحد)، لكن تمّ الترخيص للصحابة بتلاوته بــ(عدة ألفاظ)، وبـ(صيغ مختلفة)، (وهي أبسط طريقة لترجمة عبارة “الأحرف السبعة”) ما دام المعنى محفوظًا.). إ.ه.

فوفق دعوى الكاتب، القرآن نزل على النبي محمد على حرف واحد، وأما الأحرف الأخرى فهي من اجتهادات الصحابة ومحاولتهم موافقة حرف النبي في المعنى ثم أقرهم النبي عليها. وعلى هذا القول – الذي ربما لم يسبق أحد إليه في تأريخ الإسلام – القراءة بالمعنى أو (نموذج الرخصة الإلهية) تعتبر صحيحة ومقبولة عندما يحافظ على المعنى الأصلي للآيات، حتى لو اختلفت الألفاظ أو الصيغ المستخدمة عما تلاه النبي صلى الله عليه وسلم. فحسب هذا الرأي قد سُمح للصحابة بتلاوة القرآن واستخدام ألفاظ وصيغ متنوعة تتوافق مع لهجاتهم وما يستطيعون تذكره، شريطة أن يبقى المعنى محفوظًا دون إخلال.

بعبارة أخرى، الإذن بذلك كان (تسهيل إلهي) لمصادر اختلاف الألفاظ ومنبع التغييرات في الأحرف الستة الزائدة وبالتالي في القراءات القرآنية أن تكون بشرية في طبيعتها، وهذه الاختلافات نابعة من عاملين رئيسيين:

أولًا، اختلاف اللهجات والكلمات وهو صادر عن اجتهاد الصحابة فلم يؤد هذا الاختلاف إلى تنوع في طرق النطق والأداء فحسب بل إلى اختلاف في ماهية مفردات الآيات ما لم تغير المعنى.

ثانيًا، محدودية قدرة الصحابة على الحفظ أثرت في كيفية تذكرهم وتلاوتهم للآيات. وهذا يعني أن بعض الاختلافات الموجودة في الأحرف والقراءات -بل الكثير منها – نشأت من قدرات الصحابة البشرية ، أي مصدرها البشر وليس ربّ البشر.

وعليه فإن هذه الأحرف واختلافاتها – في رأي الكاتب- نشأت من قدرات الصحابة البشرية، لا من الوحي المنزل الذي تم تلقيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المفارقات بين رؤية الكاتب وجمهور العلماء

فعلى ما سبق ، هناك العديد من المفارقات الجوهرية بين رؤية الكاتب وجمهور العلماء حول الأحرف السبعة:

  1. مصدر الأحرف: بينما يرى الكاتب أنها نشأت من التنوع اللغوي والقدرات البشرية للصحابة، جمهور العلماء على أنها توقيفية ووحي منزل من الله تعالى. فقد نفى علماء الإسلام أن يكون مصدر القرآن بشريا ، ويكفي في بيان ذلك ما قاله الإمام ابن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى من سورة النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) }، قال (يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا منهم: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله، يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون…)[3].
  2. دور النبي: يفترض الكاتب أن النبي تلا القرآن بطريقة واحدة ورخّص للصحابة بالتلاوة بطرق مختلفة نشأت من قبل أنفسهم، وأما موقف علماء الإسلام فهو أن النبي تلقى جميع الأحرف عن رب العالمين وعلّمها للصحابة كما أنزلت عليه.
  3. طبيعة الاختلافات: يعتبر الكاتب الاختلافات نتيجة لاجتهاد الصحابة ومحدودية حفظهم، بما في ذلك الخطأ والنسيان وعدم القدرة على النطق، بينما موقف علماء الإسلام هو أنها جزءًا لا يتجزأ من الوحي الإلهي.
  4. حدود التغيير: يسمح الكاتب بتغيير الألفاظ والصيغ ما دام المعنى محفوظًا، حينما جمهور العلماء على أن الأحرف توقيفية لا مجال للاجتهاد فيها.

هذه الفروق تعكس تباينًا عميقًا في فهم أصل هذه الأحرف وطبيعتها بين الكاتب وعلماء الإسلام.

رأي الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في الأحرف السبعة ومعناها.

استدل الكاتب بنقولات كثيرة ، منها كلام الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي المتوفى سنة 1386 للهجرة ، ينقل كلاما له من كتابه (الأنوار الكاشفة لما في كتاب «أضواء على السنة» من الخلل والتضليل والمجازفة) وهو كتاب رد فيه على أبو رية وكتابه (أضواء على السنة) الذي تجاسر فيه على السنة النبوية أجمع وعلى حق الصحابي الجليل أبي هريرة خاصة.

وقبل النظر في كلام المعلمي في المسألة وهل هو موافق لــ(نموذج الرخصة الالهية) على دعوى الكاتب، فلا بد من معرفة التسلسل الزمني لأعمال المؤلف بناءً على ما يمكن استنتاجه من النصوص الواردة عنه. فقبل الاستدلال بأي رأي لا بد من معرفة مدى صحته ، وهل هو مجمل قد فصل في مكان آخر ، أو تعرض للخطأ بسبب السهو أو النقل الخاطئ ، أو أن رأيه تغير عبر الزمن أو استدل برأي معين ليس عن اعتقاده ذلك أصالة بل لإلزام خصمه بما هو قائل به أو مسلّم له، وذلك لبيان تناقضه أو خطأ استدلاله.

التسلسل الزمني لأعمال المؤلف

ورد عن المعلمي عدد قليل من النقول في مسألة الأحرف السبعة ، أوسعها ما ذكره في كتابه (الأنوار الكاشفة) كما نقل ذلك عنه الكاتب. ويمكننا ترتيب كتب المعلمي زمنياً على النحو التالي:

أولاً، كتاب (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله) المعروف أيضاً بـ(كتاب العبادة)، حيث يتضح أنه ألفه قبل خروجه من الهند في أوَّل أوْ ثاني ذي القعدة من عام ١٣٧١ ه. ويؤكد ذلك قوله في مسودة محاضرة: (كان وكنت مشغولاً منذ مدة بجمع كتاب في تحقيق معنى الإله والعبادة في الإسلام).

ثانياً، كتاب (التنكيل)، الذي ألفه في نفس الفترة تقريباً أو بعد (كتاب العبادة) مباشرة، حيث ذكر محقق اثاره أن (أشار المؤلف إلى هذا الكتاب في كتابه التنكيل، مما يؤذن بتقدُّمه عليه أو مقارنته له)[4].

ثالثاً، كتاب (عمارة القبور)، الذي يُرجح أنه ألفه (…بعد مَقدمه إلى مكة المكرمة بعد سنة ١٣٧١ هـ). قد ذكره في كتابه رفع الاشتباه / العبادة في موضعين، يُرجح أن المؤلف ألّف كتاب (عمارة القبور) بعد انتقاله إلى مكة المكرمة بعد عام 1371هـ. هذا الاستنتاج مبني على ردوده على شبهات حسن الصدر في رسالة (الرد على الوهابية)، وإشارته إلى قضية الوهابية في الكتاب. يبدو أن المؤلف واجه هذه القضايا بشكل مباشر بعد وصوله إلى مكة، مما يرجح تأليف الكتاب في هذه الفترة.[5]

سؤال يطرح نفسه هو: كيف يكون هذا الكتاب لاحق تأريخيا لكتاب العبادة مع أنه مذكور فيه؟ الجواب أن المؤلف استمر في مراجعة وتنقيح “كتاب العبادة” حتى بعد تأليفه الأولي، كما يتضح من قول المحقق: (…إلَّا أنَّ المؤلِّف لم يزل يعيد النظر في كتابه ويضيف إليه ويحذف منه، كما تدلُّ على ذلك مبيَّضة الكتاب الأولى وما تلاها.)[6]

وأخيراً، كتاب “الأنوار الكاشفة” الذي طبع في حياة مؤلِّفه سنة ١٣٧٨ه. ومن الجدير بالذكر هنا أن المعلمي قال عن نفسه وعمله في كتابه (…وكان جَمْعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أُكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه «أضواء على السنة»…).[7]

إذن الترتيب الزمني لكتب المعلمي وما ورد في مسألة الأحرف على النحو التالي:

  1. (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله) أو (كتاب العبادة): قبل ذي القعدة 1371هـ.
  2. (التنكيل): حوالي نفس فترة (كتاب العبادة) أو بعده مباشرة.
  3. (عمارة القبور): بعد انتقاله إلى مكة، بعد 1371هـ.
  4. (الأنوار الكاشفة): طُبع سنة 1378هـ.

كلامه من (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله): قبل ذي القعدة 1371هـ.

ذكر المعلمي قضية الأحرف والقراءات في موضعين من الكتاب، الأول في مقدمة الكتاب تحت عنوان (التحقيق في شأن ناجية بن كعب من حيث الجرح والتعديل). والثاني في الباب الثاني في تحقيق معنى كلمة (إله)، ومعنى كلمة (العبادة) وما يلحق ذلك، تحت عنوان فرعي الأعذار وموضوع بيان أحوال من يعذر ممن كذب بآية من آيات الله، وذكر ما وقع لبعض الصحابة من هذا القبيل).

النقل الأول:

قال رحمه الله: (وذهب بعض المنتسبين إلى الإسلام من المتفلسفين إلى أنَّ في القرآن والأحاديث الثابتة كذبًا كثيرًا، ويقولون: هو كذبٌ حسن للمصلحة. وذهب بعضهم إلى إنكار أن يكون القرآن من عند الله، وإنكار أن يكون الأنبياء معصومين عن الكذب، قالوا: وإنما هم رجالٌ صالحون مصلحون تكلَّموا بمقدار فهمهم وعلمهم فغلطوا كثيرًا. وفي قصة ابن أبي سرحٍ أنه كان يكتب للنبيِّ ، فربَّما أملى عليه النبيُّ : «عليمٌ حليمٌ»، فيقول: أو: «عزيزٌ حكيمٌ»، فيقول النبيُّ : «كلاهما سواءٌ»، فارتدَّ ابن أبي سرحٍ . هذا ضربٌ. والضرب الثاني، من أمثلته: ما في صحيح مسلمٍ من حديث أبيِّ بن كعبٍ في اختلاف القراءة، وفيه: قال أُبيٌّ: «فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله ما قد غشيني ضرب في صدري، فَفِضْت عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا». وفي خبر الرجل الذي قاتل مع النبي أشدَّ القتال، وقال النبيُّ : «هو من أهل النار»، فكاد بعض المسلمين يرتاب.وفي قصَّة الحديبية، ويوم أحدٍ، ووفاة النبيِّ ما يشبه ذلك.)[8] إ.هــ.

ما يستفاد من هذا النص:

من خلال هذا النص، يتضح أن المعلمي يقر بوجود اختلافات في القراءات، مستشهدًا بحديث أبي بن كعب في صحيح مسلم. وهو يعترف بأن هذه الاختلافات قد أثارت بعض الشك لدى بعض الصحابة في البداية، كما حدث مع أُبيّ نفسه. كما يذكر أن صحة المغايرة بين بعض الألفاظ كانت فتنة لبعضهم، مما أدى إلى ارتدادهم كما في قصة ابن أبي سرح. فالمعلمي يذكر هذه الاختلافات في الألفاظ في سياق الرد على منكري عصمة الأنبياء أو صحة القرآن مما يجعلنا نوقن بأنه يعتبرها وحيًا وليست خطأً أو تحريفًا، بل قبولها كان جزءًا من عملية الإيمان والتصديق بالوحي.

على كل ، فقراءة هذا النص على حدة يجعل من الواضح – بمفهوم المخالفة – أن المعلمي يقر بأن سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقص، وعليه فهو لا يقبل أن يكون فيه اجتهادات فردية مأذون بإدراجها وتغيرها حسب ميول القارئ لها وتذكره وقوة استحضاره، وعليه فــ(نموذج الرخصة) لا يكون مقبول لديه.

النقل الثاني:

وهو قوله في بيان أحوال من يعذر ممن كذب بآية من آيات الله، وذكر ما وقع لبعض الصحابة من هذا القبيل، فقال رحمه الله: (وممن يُعْذَر ممن كذَّب بآية من آيات الله: مَن سبق لسانُه إلى لفظٍ فيه تكذيب، وَمَن أُكْرِه وقلبه مطمئن بالإيمان بالشرط السابق، ومَن ظنَّ أنها ليست من عند الله وكان له عذر في ظنِّه، مثل أن يكون قارئًا للقرآن يظنُّ أنه إذا تُلِيَتْ عليه آية من القرآن لا يشتبه عليه أنها منه، فتُلِيت عليه آية فظنَّ زيادةَ كلمة أو نقصانَها فجزم بذلك خطأً على شرطِ أَنَّهُ إذا رُوجِعَ وَبُيِّنَ له غَلَطُه رَجَعَ. ومن هذا القبيل ما وقع لابن مسعود من إنكار أن تكون المعوِّذتان من القرآن، وذلك أنه صحب النبي طويلًا وقرأ عليه القرآن فلم يَتَّفِقْ له أن يُقرئه النبي المعوِّذتين على أنهما من القرآن، ولا ذكر أنَّ النبيَّ قرأ بهما في الصلاة، وإنما سمع النبيَّ يعوِّذ بهما الحسن والحسين مع أمور أخرى تجمَّعَتْ عنده وقويت في نفسه حتى ظَنَّ ما ظَنَّ. ونحن على يقينٍ أنه لو اتَّفَقَ مراجعةُ جماعة من الصحابة له بحيث يكون خبرُهم قطعيًّا لرجع. وقد وقع لأفرادٍ من الصحابة مثل ما وقع لابن مسعود، وقد جاء عن أُبَيّ بن كعب أنه كان في مصحفه أشياء ليست عند جمهور الصحابة من القرآن؛ لأنهم علموا أنَّ تلاوتها نُسِخت. وفي صحيح البخاريِّ وغيره عن ابن عباس قال: قال عمر: أقرؤنا أُبيٌّ، وأقضانا عَلِيٌّ، وإنا لَنَدَعُ من قول أُبَيٍّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أَدَعُ شيئًا سمعته من رسول الله ، وقد قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾. وقد اختلفت الأمَّة في ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، واتفقت على عذر المثبت والنافي، وقد جرى لعمر وأُبيٍّ وابن مسعود وغيرهم إنكارُ قراءة مَن قرأ مخالفًا لما أقرأهم النبيُّ حتى بَيَّنَ لهم النبيُّ أنَّ تلك القراءات كلَّها حق، فأما عمر وابن مسعود وغيرهما فاكتفوا بذلك. وأما أُبَيٌّ فَعَرَضَ له ما تقدَّم أوائلَ الرسالة حيث قال: فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنتُ في الجاهلية، فلما رأى رسولُ الله ما قد غَشِيَنِي ضرب في صدري فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنما أنظر إلى الله فَرَقًا»، وذكر الحديث . قال الأُبِّيُّ في شرح مسلم بعد أن نقل كلام المازَري ثم كلام القرطبي: «قلت: وكلامه وكلام غيره قاضٍ بأنهم حملوا الحديث على أنَّ معناه: فوقع في نفسي من تكذيبي إيَّاه لتصويبه قراءة الرجلين أكثر من تكذيبي إيَّاه قبل الإسلام، فلذلك أَوَّلُوه بأنَّ الذي وقع في نفسه إنما هو نزغة وَخَطْرَة لا تستقرُّ في النفس، والخَطْرةُ التي لا تستقرُّ في النفس غيرُ مؤاخَذٍ بها؛ لأنه لا يقدر على دفعها»، ثم ذكر تأويلًا ضعيفًا جدًّا. وأقول: هذه النزغة ليست من باب الوسوسة التي يلقي بها الشيطان في صدر الإنسان خواطر هو يعلم أنها كذب كما في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله إلى النبي فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلَّم به، قال: «أوَ قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان» ؛ فإنهم فسَّروا هذه الوسوسة بما يلقيه الشيطان في خاطرك وأنت تعلم يقينًا بطلانَهُ، كما جاء في حديث آخر أنه يلقي في خاطر الإنسان: «هذا اللهُ خلق الناسَ فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟» ، فإن الإنسان يخطر له خاطر وهو يعلم موقنًا أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وأنه لم يزل ولا يزال. ويُحْكَى أنَّ رجلًا جاء إلى بعض العلماء، فقال له: إنَّ الشيطان قد أضرّ بي، يقول لي: قد طَلَّقْتَ زوجتك، قد طَلَّقْتَ زوجتك. فقال له العالم: أَوَ لَمْ تُطَلِّقْهَا وأنا شاهد؟ قال: لا، والله ما طلَّقتُها. فراجَعه في ذلك، فقال: اتَّقِ الله فِيَّ؛ فإنها والله زوجتي، والله ما طلَّقتها قطُّ. فقال له العالم: فإذا جاءك الشيطان فاحلف له كما حَلَفْتَ لي. هذا معنى القصَّة دون لفظها. والذي عرض لأُبيٍّ شيءٌ أَشَدُّ من هذا إذا حُمل الحديث على ما فهموه. وعندي أنَّ المعنى: فسقط في نفسي شيء من التكذيب ليس كالتكذيب إذ كنت في الجاهلية، أي بل دونه؛ فقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ قولهم في المَثَلِ: ماء ولا كصَدَّاء، معناه: هذا ماء جَيِّد، وليس كماء صَدَّاء في الجودة، بل دونه. وكذا قالوا في المثل الآخر: مَرْعىً ولا كالسَّعْدان. والحكايات التي ذكروها في أصل هذين المثلين صريحة في ذلك، والقواعد تقتضي ذلك. وعلى هذا فالأمر الذي سقط في نفس أُبيٍّ رضي الله تعالى عنه دون تكذيبه إذ كان في الجاهلية، ولكن مع ذلك يظهر لي أنه أَشَدُّ من الوسوسة الفارغة. وفي كلام الأُبِّيِّ ما يؤخذ منه أنَّ العذر مَبْنِيٌّ على مجموع أمرين: الأوَّل: عدم استقرار ذلك العارض. والثاني: عدم القدرة على دفعه.)[9] إ.هــ.

ما يستفاد من هذا النص:

يقر المعلمي بوجود اختلافات في القراءات القرآنية، معترفًا بأن بعض الصحابة واجهوا صعوبات في قبول بعضها في البداية. ويذكر على سبيل المثال ابن مسعود وأبي بن كعب الذين كان لديهم شك في بعض الآيات أو السور لما سمعاها من اخرين. والمعلمي يعتبر مثل هذا الشك معذورًا في ظروف معينة، منها: عندما يسبق اللسان إلى لفظ فيه تكذيب دون قصد، أو في حالة الإكراه مع بقاء القلب مطمئنًا بالإيمان. كذلك يعذر من يظن أن الآية ليست من عند الله لسبب مقبول، كأن يتوهم زيادة أو نقصانًا في آية تُتلى عليه، بشرط رجوعه عند بيان الحق له. ويشمل العذر حالات مثل إنكار ابن مسعود للمعوذتين لعدم سماعه إياهما من النبي كجزء من القرآن، والاختلاف في وقوع النسخ في تلاوة بعض الآيات، والخلاف حول البسملة. كما يعذر الصحابي الذي ينكر قراءة تخالف ما تعلمه قبل أن يبين له النبي صحة نزول القرآن على أحرف ووجود القراءات المختلفة. وأخيرًا، يعتبر الشك معذورًا إذا كان خاطرًا عابرًا لا يستقر في النفس ولا يقدر الشخص على دفعه. في جميع هذه الحالات، يشترط المعلمي استعداد الشخص للرجوع عن شكه عند بيان الحق، وأن لا يكون الشك راسخًا في نفسه.

أما فيما يتعلق بحديث أبي بن كعب حول الشك الذي وقع في نفسه، يقدم المعلمي تفسيرًا له يميز فيه بين التكذيب الكامل وبين الشك العارض الذي قد يقع في النفس وبين الوسوسة، معتبرًا ما حدث لأبي من قبيل ما هو أشد من مجرد وسوسة ولكن دون التكذيب الكامل. وفي النهاية، يؤكد المعلمي على أن العذر في مثل هذه الحالات مبني على عدم استقرار الشك في النفس وعدم القدرة على دفعه، وعليه يفسر كثير من ردود أفعال الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وشهدوا تقلباته وأطواره. فحتى مع شهودهم للوحي مباشرة، استغرق الأمر وقتًا لبعضهم للتوافق مع شكله النهائي، وذلك لكون تجدد الوحي وتطوره أمرًا معتادًا لهم، مما جعلهم يترددون في قبول ما لم يكن مألوفًا دون تأكّد، حرصًا منهم على الدقة والتثبت في أمر كتاب الله.

كلامه من (التنكيل): الذي كبته في نفس فترة (كتاب العبادة) أو بعده مباشرة.

لم يأت ذكر لمسألة القراءات والأحرف في هذا الكتاب سوى النقل عن الكوثري في كلامه على ظاهر رواية المذهب الحنفي حيث نقل كلامه: (وأما كتب النوادر فحكم مسائلها في جنب مسائل ظاهر الرواية كحكم القراءات الشاذة … على أن قيمة روايات النوادر تقدَّر بأحوال رواتها).[10]

ما يستفاد من هذا النص:

ليس في هذا النص ما يفيد بحثنا بخصوص رأي المعلمي في الأحرف والقراءات ، وإنما ذكرته لتمام استقراء ما ورد عنه رحمه الله تعالى.

كلامه من (عمارة القبور): بعد انتقاله إلى مكة، بعد 1371هـ.

يقول المعلمي رحمه الله:

(…وبقي الناس مقبلين على الحفظ مُسْتَغْنين به خلافةَ أبي بكر وعمر وصدرًا من خلافة عثمان، وكتب بعضهم مصحفًا لنفسه كابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب. ثم غزا صاحبُ سِرِّ رسول الله حذيفة بن اليمان، فسمع بعضَ اختلاف في القراءات، منه ما نشأ عن اختلاف الأحرف، وكلٌّ صحيحٌ ولكنه أدى إلى النزاع، ومنه ما نشأ عن خطأ من الأعاجم الذين أسلموا ونحوهم، فأفزعه ذلك، فجاء فأشار على عثمان بتدارك القضية، فتداركها بنسخ عدة مصاحف، وإرسال كل مصحف إلى مِصْرٍ، وهو تقريبًا كما كان في عهد النبي وصاحبيه، مصحفٌ بالمدينة، فصارت كل مدينة محتاجة إلى مصحف، وهذا هو فعل عثمان. وأما بعد ذلك فهُجِرَت الوسيلة العظمى وهي الحفظ، وفترت الهِمَم، حتى لو لم توجد المصاحف بكثرة لهجروا القرآن رأسًا، فتعيَّن حينئذٍ تكثير المصاحف. والمقصود أن جمع القرآن في مصحف واحد مع كونه جائزًا في عهده، فلم يُقْدِم عليه الصحابة إلا عند الاضطرار إليه.) إ.هــ.[11]

ما يستفاد من هذا النص:

يستفاد هنا أن المعلمي يقر بوجود الأحرف السبعة ويعتبر جميعها صحيحة، مع إدراكه أن الاختلاف فيها أدى إلى نزاع بين المسلمين. كما أنه يميز بين هذا الاختلاف الصحيح والأخطاء الناشئة عن قراءات الأعاجم وغيرهم مما يفهم منه عدم إقراره للقراءة بالمعنى حيث لو كان جائزا على الإطلاق لما كان ثم وجه للإنكار أو النقد من قبل حذيفة رضي الله عنه. ويفهم من هذا النص كذلك أن المعلمي يرى جمع عثمان للقرآن كان استجابة لمعالجة هذه المشكلة، مع الحفاظ على تعدد القراءات الصحيحة من خلال إرسال مصاحف مختلفة إلى الأمصار. كما يشير إلى أن جمع القرآن في مصحف واحد كان جائزًا في عهد النبي، لكن الصحابة لم يلجأوا إليه إلا عند الضرورة.

كلامه من (الأنوار الكاشفة): طُبع سنة 1378هـ.

كلام المعلمي هنا هو المحك في بحث ما ادعاه الكاتب، إذ استدل به على فهمه للأحرف وتفسيرها إذناً عاماً للصحابة بالقراءة بالمعنى، معتبراً أن الاختلافات في الألفاظ والقراءات نشأت من اجتهادات الصحابة ومحدودية حفظهم، مع الحفاظ على المعنى الأصلي، مسمّيًا ذلك (نموذج الرخصة الإلهية) مدعيا أن المعلمي تبنى ذلك. وكما سبق، يرى الكاتب أن الأحرف السبعة ليست وحياً منزلاً بذاتها، بل هي تسهيل إلهي يسمح بتنوع في أداء النص القرآني مصدره بَشَريٌ ، أي مصدره اجتهادات الصحابة أنفسهم، وهذا مخالف للفهم الصحيح بأنها توقيفية ، كما سبق في أول البحث.

وقد تكلم المعلمي على الأحرف في موضع واحد من كتاب الأنوار الكاشفة، في معرض الحديث عن الكذب على النبي ﷺ وذلك في البحث الثاني في حقيقة الكذب وما يتعلق بقضية الرواية بالمعنى) ، وهو أكثر النقول عنه تفصيل. فقال رحمه الله: (الرواية بالمعنى – قال أبو ريَّة ص ٨: (ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى). أقول[12]: أنزل الله هذه الشريعة في أمة أُمية، فاقتضت حكمتُه ورحمته أن يكلّفهم الشريعة، ويُكلِّفهم حفظها وتبليغها في حدود ما يتيسّر لهم. وتكفَّل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتمّ ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير (ص ٢٠ و٢١ و٢٢). ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بانَ له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل، ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي ﷺ لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى.[13]

فكان النبي ﷺ يلقّن أصحابه فيكون بين ما يلقّنه ذا وما لقّنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كلٌّ بما لُقِّن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقَّنوه الناس، ورُفِع الحرج مع ذلك عن المسلمين. فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ما كان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل. وفي «فتح الباري» : «ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له». [علق المعلمي هنا قائلا: والمثال الذي ذكره الحافظ هو قراءة ابن مسعود «عتى حين» وليست من المرادف بل لهجة في الكلمة.]

فهذا ضَرْبٌ محدود من القراءة بالمعنى رُخِّص فيه لأولئك. وكتب القرآن بحضرة النبي ﷺ في قطع من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل ــ والله أعلم ــ غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي ﷺ، واحتمال رسم المصاحف العثمانية. وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم [ص ٥٣] ولعله غالبها إن لم يكن جميعها، مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعًا للقِطَع التي كُتِب فيها القرآن بحضرة النبي ﷺ، كأن توجد الآية في قطعتين كُتِبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة.)[14] إ.هــ.

رأي المعلمي في كون حرف قريش هو الحرف الأصل والأحرف الأخرى تالية له

بناءً على كلام المعلمي نفسه، يمكن تلخيص رؤيته لنزول القرآن على حرف واحد كما يلي:

يرى المعلمي أن الله تعالى أنزل القرآن أولاً على حرف واحد، وهو ما يسميه (الحرف الأصل). يقول في ذلك: “أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل”. ثم يشرح أن هذا الحرف تبعه تعليم آخر، حيث يقول: (ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي ﷺ لتمام سبعة أحرف). هذه الأحرف الستة الإضافية، كما يوضح المعلمي، هي (عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى). ويستدل المعلمي على هذا الفهم من خلال تدبره للأحاديث المتعلقة بنزول القرآن على سبعة أحرف، حيث يقول: (ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك بانَ له…) هذا الفهم. وبهذا، يؤسس المعلمي لفكرة وجود أصل واحد للقرآن، مع توسع لاحق في طرق قراءته وأدائه، دون المساس بالمعنى الأصلي.

رأي المعلمي في جمع عثمان للمصاحف ودور ذلك في ضبط الأحرف

رأى المعلمي أن جمع عثمان للقرآن كان له أثر في ضبط الأحرف السبعة وقمع الخلاف الحاصل باتساع رقعة الإسلام ودخول الناس فيه دون فهم للغات العرب ولهجاتهم، فجمع عثمان للقرآن كان نقطة تحول في تاريخ الأحرف السبعة. فهو يقول: (وبذلك [أي جمع عثمان للقرآن على حرف قريش] خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم”. ويصف هذه الأحرف الستة الإضافية على أنها (عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى). وهو يعتبر هذه الأحرف الإضافية جزءًا من الوحي الإلهي، حيث تم تعليمها للنبي محمد ﷺ من قِبَل جبريل. وبهذا، يؤكد المعلمي على أن الأحرف السبعة – الحرف الأصلي والستة الإضافية – كلها منزلة من عند الله، وليست مجرد اجتهادات بشرية أو تنوعات لغوية نشأت لاحقًا.

هذا يعني أن المصحف العثماني حافظ على الأحرف التي توافقت مع رسمه، بينما استبعد الأخرى. ويضيف المعلمي أن هذا الجمع أدى إلى تقييد القراءات بشرطين: “النقل الثابت بالسماع من النبي ﷺ، واحتمال رسم المصاحف العثمانية”. وبهذا، يرى المعلمي أن جمع عثمان حافظ على جوهر الأحرف السبعة ضمن إطار موحد، مع استبعاد ما لا يتوافق مع الرسم المكتوب بلغة قريش. ويشير إلى أن هذا الجمع ربما حفظ “غالبها إن لم يكن جميعها” من الأحرف الستة الإضافية، مما يدل على شموليته وحفظه للتنوع المقصود في القراءات القرآنية.

هل تبنى المعلمي جواز القراءة بالمعنى؟

يرى المعلمي أن هناك مرحلة وسطية بين نزول القرآن على الحرف الأصلي وجمع عثمان للمصحف، وهي مرحلة الأحرف الستة الإضافية. يقول في ذلك بوضوح: (أن الله تعالى أنزل القرآن على حرفٍ هو الأصل، ثم تكرّر تعليم جبريل للنبي ﷺ لتمام سبعة أحرف). ولكن بعد تحليل ما قاله المعلمي هنا في الأنوار الكاشفة، يتضح أن هناك بعض الغموض في شرحه للقراءة بالمعنى مما ربما أربك الكاتب وجعله يعمم كلام المعلمي على جواز القراءة بالمعنى مطلقا.

علاقة المرادفات بالأحرف السبعة

ويمكننا النظر إلى هذه المسألة من خلال احتمالين:

الأول: حمل القراءة بالمعنى على أنها المرادفات خارج الأحرف السبعة والتي لا تتوافق مع أحد الأحرف: يقول المعلمي: (فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ما كان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل). فقوله (…ومنه ما لا يوافق…) هل يريد ما لا يوافق الأحرف المنزلة؟ أي أنه كان مسموحًا لبعض الناس استخدام مرادفات حسب معانيها دون تقيد بالأحرف حتى لو لم تتطابق مع أي من الأحرف السبعة؟ وهل ذلك بسبب ما واجهوه من صعوبة في النطق أو الحفظ؟ ويصف المعلمي هذا بأنه (ضَرْبٌ محدود من القراءة بالمعنى رُخِّص فيه لأولئك). فهل هذه الرخصة هي ما تقيدت بما تتوافق مع أحد الأحرف أم شيء آخر؟ يلاحظ القارئ لكلام المعلمي أنه تبع الحافظ في ذلك حين قال (ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولو لم يكن مسموعًا له)[15] مما قد يوهم أول وهلة أن المراد بذلك القراءة بالمعنى حسب تشهي القارئ وتذكره لمرادف يناسب المعنى.

الاحتمال الثاني: هو كون تلك الرخصة داخلة ضمن الأحرف الستة الإضافية كمرادفات. فالمعلمي يصف الأحرف الستة الإضافية بأنها (عبارة عن أنواعٍ من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى).

يمكن تفسير هذا على أن هذه الأحرف الإضافية هي تنويعات مرادفة للحرف الأصلي، خاصة وهو نفسه علق على كلامه بقوله عند إيراد كلام الحافظ ابن حجر على الأحرف (والمثال الذي ذكره الحافظ هو قراءة ابن مسعود «عتى حين» وليست من المرادف بل لهجة في الكلمة). فإشارة المعلمي هنا إلى كون قراءة ابن مسعود لهجة لا مرادفا يوحي لنا أنه لم يضبط ما أراد الحافظ هنا وإنما نقل كلامه مستدلا به على جواز القراءة بالمعنى على وجه من الوجوه – لا من كل الوجوه – فإنه لم يرد تحقيق المسألة ولا بيان القول الفيصل فيها.

مما يقوي الظن بذلك أمران:

الأول: أنه قد قال الحافظ في نفس الموضع (وَتَتِمَّةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْإِبَاحَةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَقَعْ بِالتَّشَهِّي أَيْ إِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُغَيِّرُ الْكَلِمَةَ بِمُرَادِفِهَا فِي لُغَتِهِ بَلِ الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ السَّمَاعُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُ كُلٍّ مِنْ عُمَرَ وَهِشَامٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ ﷺ لَكِنْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ بِالْمُرَادِفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَهُ). فلا يفهم قول الحافظ (…وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَهُ…) على أن القارئ ابتكر ذلك من نفسه ، وإنما قرأ حسب مقتضى اللغة علما أنه موافق للحرف المنزّل ولو لم يسمعه من النبي مباشرة ، هذا احتمال.

والاحتمال الآخر هو أن قوله (…وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا لَهُ…) محمول على أحيانا يقرأ مجتهدا في إصابة الحرف المنزل، فيقرأ ويخطئ إلا أنه لا يأثم بذلك الخطأ ، فإنه ما زال في طور استقرار المقروء عند الناس وبيان ما هو منزل من غير المنزل. ففي مصنف عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود: (ليس الخطأ أن تقرأ بعض القرآن في بعض، ولا أن تختم آية غفور رحيم بعليم حكيم أو بعزيز حكيم، ولكن الخطأ أن تقرأ ما ليس فيه، او تختم آية رحمة بآية عذاب)[16]. فهذا كما قال د. عبد السلام مقبل المجيدي – أحد العلماء المعاصرين: (يتصل بعدم الغلو والتنطع في الإقراء، ويدل على التسامح وعدم الفزع عند وقوع الخطأ في اللفظ القراني أو في أدائه…ولعل هذا يتكلم عن الوقوع لا عن الجواز ابتداء، ولذا تكلم العلماء على الوقوع المفسد وأن ضابطه تغير المعنى…)[17] وأشار مؤيدا لما يقوله إلى كلام للنسفي (ت 537) في زلة القارئ في الخطأ الخامس في الكلمة توجيها شبيها بهذا. وأنقل اليكم كلامه هنا لتكتمل الصورة حيث قال: (والخامس: أن يقيم كلمة مقام كلمة، هي في القرآن، أو ليست فيه، وبتغير بها المعنى، أو لا يتغير. فإن كانت في القرآن، ولم يتغير بها المعنى نحو أن يقرأ الرحمن الكريم، لم تفسد بالاتفاق، وإن تغير بها المعنى فسدت نحو أن يقرأ إنا كنا غافلين مكان فاعلين، ولم تفسد عند بعضهم لنوع ضرورة والصحيح أنها تفسد لتغير المعنى. فإن لم تكن الكلمة في القرآن، وتغير بها المعنى، نحو أن يقرأ فلعنة الله على الموحدين فسدت بالاتفاق لتغير المعنى. و إن لم يتغير بها المعنى نحو أن يقرأ إن المتقين في بساتين فسدت عند أبي يوسف رحمه الله، خلافا لهما).[18]

ماذا أراد المعلمي بالاستدلال بقراءة القرآن بالمعنى؟

من الواضح بعد هذا التفصيل أن المعلمي نقل كلاما في معرض الرد على أبي رية مستدلا بقراءة القرآن بالمعنى في حد ضيق لم يمس بمعناه ولم يتعرضه للخطأ والتحريف. فالمعلمي لم يرد بيان حكم عام في الأحرف وإنما أراد إلزام خصمه بأن ما يقال في السنة وأطوار تدوينه فإنه يقال في القرآن وجمعه كذلك. قال المعلمي (ومدار البحث هو أن الرواية بالمعنى قد تُوقِع في الخطأ، وهذا معقول، لكنْ لا وجه للتهويل،) إلى أن قال (من تدبَّر هذا ولم يُعْمِه الهوى اطمأنّ قلبُه بوفاء الله تعالى بما تكفَّل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد.)[19] فأراد المعلمي أن يقول بأن الأطوار في حفظ القرآن وجمعه كان من جملة ما اقتضت حكمته سبحانه وتعالى فكذلك حفظ بيان القرآن الذي هو السنة، قال (أنزل الله هذه الشريعة في أمة أُمية، فاقتضت حكمتُه ورحمته أن يكلّفهم الشريعة، ويُكلِّفهم حفظها وتبليغها في حدود ما يتيسّر لهم. وتكفَّل سبحانه أن يرعاها بقدرته ليتمّ ما أراده لها من الحفظ إلى قيام الساعة.) فحيث أراد أبو رية أن يلزم خصومه بأن الرواية بالمعنى يوجب الوقوع في الخطأ لا محالة ، قلب المعلمي عليه دعواه فكأنه قال: إن كان هذا صحيحاً، فيلزم منه الشك في القرآن أيضاً لتعدد قراءاته وأحرفه، وهو ما لا يقبله مسلم.

ومن الجدير بالذكر هنا أن المعلمي قال عن نفسه وعمله في كتابه (…وكان جَمْعي للكتاب على استعجال مع اشتغالي بغيره، فلم أُكثر من مراجعة ما في متناولي من مؤلفات أهل العلم، ولا ظفرت ببعضها، ومنها ما هو من مصادر الكتاب المردود عليه «أضواء على السنة»…)، وقال (ورجائي ممن يطالع كتابي هذا من أهل العلم أن يكتب إليَّ بما عنده من ملاحظات واستدراكات؛ لأراعيها أنا ــ أو من شاء الله تعالى ــ عند إعادة طبع الكتاب إن شاء الله تعالى.)[20] مما يوضح لنا أن هدفه من الكتاب لم يكن التحقيق الشامل في كل مسألة، وإنما الرد على أبي رية وإلزامه بما يدحض شبهاته.

افتراض جواز القراءة بالمعنى عند المعلمي، هل هو مطلق؟

قد يقول قائل إن هذين الاحتمالين يتركان لنا نوعَ غموض في توجيه المعلمي معنى القراءة بالمعنى وعدم التمييز الواضح بينهما يجعل من الصعب تحديد أي المعنيين يؤيده المعلمي صراحةً. فإن قال قائل إنه أراد حقيقة ما قاله حين قال (فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أو يشقّ عليه النطقُ بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ما كان يوافق حرفًا آخر ومنه ما لا يوافق…) وإنه لا يريد بذلك أن القارئ قد يوافق الأحرف المنزلة في قراءته وقد يخطئ خطأ لا يشنع عليه فيه، بل يريد بكلامه السابق أن ثمة مستوى آخر من تأريخ القراءة بالأحرف رُخّص فيه للناس استخدام مرادفات يقرأون بها من قبل أنفسهم ضرورةً مع كونها ليست من الأحرف السبعة قطعاً، وإن ذلك حكماً خاصاً لمن يجد صعوبة في النطق أو الحفظ. فما الجواب عن ذلك؟

الجواب – والله أعلم – أنه لو فرض أنه أراد جواز القراءة بالمعنى على هذا المنوال فهو لا يؤيد تلك الفكرة مطلقا ، بل يطرح تصوراً أكثر تقييداً مما ادعاه الكاتب فيرى أن القراءة بالمعنى كانت مخصصة للأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة إذا واجه صعوبةً في النطق أو الحفظ، شريطةَ الحفاظ على المعنى الأصلي للنص القرآني، وذلك لفترة مؤقتة لا على الإطلاق وأن جمع عثمان للقرآن محى تلك المرونة واحتفظ بما تم الوثوق به عن النبي مما وافق الرسم العثماني الذي كتب على لغة قريش، فلم يكن ذلك مطلقاً بل مقيد بأناس معينين وحالات ضيقة.

فعلى هذا الافتراض = القراءة بالمعنى كانت مراعاة لطائفة معينة من الناس في ظل ظروف ضيقة واحتياجات خاصة ولم يكن أمرا عاما وشائعا يقرأ به كل أحد حسب التشهي ، فبجمع عثمان للمصاحف كان مصير تلك الكلمات المرخص بها أنها لم تحفظ فضلا أن تكون في المصحف الذي بين أيدينا اليوم أو في شيء من القراءات الصحيحة.

هذا ، وهو في نظري تفسير بعيد للأسباب السابقة بيانها ، ومما يزيده بُعدًا أن المعلمي لم يقدم ما يؤيده سوى كلام مجمل لابن حجر ، قد بيّنه ابن حجر نفسه في أماكن أخرى مما يزيل اللبس المتوهم فيها ، كما سبق.[21]

ما هي خلاصة رأي المعلمي في القراءة بالمعنى

يتضح من دراسة آراء المعلمي في مسألة الأحرف والقراءات القرآنية أنه يعتبرها جزءاً أصيلاً من الوحي، وليست من قبيل الاجتهادات الفردية فضلا أن تكون ناتجة عن الخطأ أو النسيان أو القصور. فمما تبين من كلام المعلمي أن اختلاف القراءات كان مصدر إشكال لبعض الصحابة في البداية، حتى بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم صحة هذه القراءات جميعها، وأنه قد حصل إنكار شديد من بعضهم على بعض لما سمعوا حروفا لم يسمعوها من النبي مباشرة – رغم كونها من الأحرف السبعة المنزلة – مما دلّ على حرصهم على تلقي الأحرف وأنها كانت محددة ومعروفة لديهم، وأن أي قراءة خارجة عنها كانت تُرفض بشكل قاطع، فمن المؤكد إذن أنهم لو سمعوا قراءات خارجة بالكلية عن نطاق الأحرف السبعة المتلقاة عنه صلى الله عليه وسلم – فضلا أن تكون من قبيل الخطأ أو النسيان – لكان إنكارهم أشد وأقوى.

وأما ما ورد عن المعلمي من كلام يوهم قبول القراءة بالمعنى مطلقا دون قيد كما ادعاه الكاتب د. ياسر قاضي، فإما مجمل يفسر بكلامه وكلام غيره في أماكن أخرى من جواز القراءة بالمرادف في حدود المنزل من الأحرف السبعة، وعليه لا يكون إذنا عاما بذلك. وإما أنه قبل ذلك في حدود ضيقة سبق بيان شروطها ، ولو سلّمنا بذلك له إلا أنه لم يقدم دليلا عليه سوى كلام مجمل لابن حجر مما يجعلنا لا نقطع برأيه في الموضوع أساسا.

فالنتيجة – إذن – واحدة = وهي عدم اعتبار المعلمي ممن يؤيد القراءة بالمعنى حسب (نموذج الرخصة الإلهية) كما ادعاه الكاتب لا من قريب ولا من بعيد.

تنبيه أخير

وأخيرا، أنبه إلى أنه إذا كان الكاتب – لتعزيز نظريته – لا يُحسن إبراز رأي المعلمي مع تَظافُر مؤلفاته ووجودها المستفيض في المكتبات الورقية والإلكترونية، فكيف لنا أن نَثِق بما يدَّعيه عن آراء علماء مصادر أقوالهم يَصعُب التحقق منها؟ فإذا كانت مصنفات المعلمي ذائعة الصيت، مطبوعة ومُيَسَّرة للقاصي والداني، ثم نرى هذا القدر من قصور في النقل وغياب التتبع وعدم الاستقراء الشامل لِما ينبغي أن يكون سهل المنال والتحقق، فما بالك بما ينسبه إلى أولئك العلماء الأفذاذ الذين يزعم أنهم يؤيدون نظريته، لا سيما إذا كانت مؤلفاتهم قد طواها الدهر أو لم يصلنا منها إلا النزر اليسير؟

فمن الملاحظ أن الكاتب يعتمد كثيرا على نسبة القول إلى أحد العلماء معتمدا على كلمات محدودة منقولة عنه ربما يفهمها بطريقته الخاصة دون قراءتها في السياق ، وهذا قصور بيّن لا يكفي في تأسيس نظرية ونسبتها إلى عالِم ما. فكيف – إذن – حينما يريد إثبات هذه النظرية ونسبتها إلى الصدر الأول من هذه الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم؟ فلا يأتي إلا بالمجمل الذي يحتاج إلى بيان، أو الضعيف، بل الواهي، بل الذي لا أصل له ولا إسناد، مما لا يمكن بناء رأي عليه في الرقائق فضلًا عن المحكمات ومن أعظمها الكلام في كلام الله القرءان. إنّ هذا لنهج معوج يثير الشك في صحة بقية ما ينقله الكاتب من أقوال ويقرره من ادعاءات ويفقد الثقة في قدرته على تحليل النصوص والاستنباط منها.

والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.


المراجع

إسماعيل، شعبان محمد. (بدون تاريخ). رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة (الطبعة الثانية). دار السلام للطباعة والنشر.

أبو شُهبة، محمد بن محمد بن سويلم. (2003). المدخل لدراسة القرآن الكريم (الطبعة الثانية). مكتبه السنة.

ابن أبي العز الحنفي، صدر الدين محمد بن علاء الدين عليّ بن محمد. (1997). شرح العقيدة الطحاوية (الطبعة العاشرة). (شعيب الأرنؤوط و عبد الله بن المحسن التركي، المحققون). مؤسسة الرسالة.

ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي. (1379هـ). فتح الباري بشرح صحيح البخاري. (محمد فؤاد عبد الباقي، المحرر). دار المعرفة.

ابن جرير الطبري، أبو جعفر محمد. (1420هــ). جامع البيان في تأويل القرآن. (أحمد محمد شاكر). مؤسسة الرسالة.

الخالدي، صلاح عبد الفتاح. (2007). القرآن ونقض مطاعن الرهبان (الطبعة الأولى). دار القلم.

الزُّرْقاني، محمد عبد العظيم. (بدون تاريخ). مناهل العرفان في علوم القرآن (الطبعة الثالثة). مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.

الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام. (1983). المصنف (الطبعة الثانية). (حبيب الرحمن الأعظمي، المحقق). المجلس العلمي- الهند، توزيع المكتب الإسلامي.

المعلمي اليماني، عبد الرحمن بن يحيى. (1434هـ). آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. (عثمان بن معلم محمود بن شيخ علي، المحقق). دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.

النشار، أبو حفص سراج الدين عمر بن زين الدين قاسم بن محمد بن علي الأنصاري. (2011). البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة (الطبعة الثانية). (أحمد عيسى المعصراوي، المحقق). دار النوادر للطباعة والنشر.

قاضي، ياسر. (بدون تاريخ). الأحرف السبعة: دراسة في بيان وجاهة القول بالرخصة الإلهية في الأحرف. موقع مركز تفسير.

مجموعة من الأساتذة والعلماء المتخصصين. (2002). الموسوعة القرآنية المتخصصة. المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مصر.

القضاة، محمد أحمد مفلح، شكرى، أحمد خالد، و منصور، محمد خالد. (2001). مقدمات في علم القراءات (الطبعة الأولى). دار عمار.

المجيدي، عبد السلام مقبل. (بدون تاريخ). إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم. دار الإيمان.


التعليقات

  1. ويبدو أن أصل هذا المقال هو ترجمة ورقة مكتوبة باللغة الانجليزية قدمها سابقا في ورشة أكاديمية إلا أنه لم يشر إلى ذلك في المقال، ولعل هذا هو السبب الرئيسي في ركاكة أسلوبها وضعف بنائها.
  2. انظر : القرآن ونقض مطاعن الرهبان ١/‏٦٤٥ لصلاح الخالدي ، ورسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة ١/‏٨ لشعبان إسماعيل ، مناهل العرفان في علوم القرآن ١/‏١٤٥ للزرقاني، والمدخل لدراسة القرآن الكريم ١/‏١٨٥ لمحمد أبو شهبة، والموسوعة القرآنية المتخصصة ١/‏١١٦ لمجموعة من المؤلفين، وشرح العقيدة الطحاوية ٢/‏٤٣٠ لابن أبي العز، والبدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة ١/‏١٥ لأبي حفص النشار، ومقدمات في علم القراءات ١/‏١٥ لمجموعة من المؤلفين.
  3. تفسير الطبري 17/298 ط. مؤسسة الرسالة.
  4. ينظر مقدمة تحقيق الآثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني مـ 2 صـ 10.
  5. نفس المصدر مـ 5 صـ 10.
  6. المصدر السابق
  7. الأنوار الكاشفة مـ 3 صـ 12 من ضمن مجموعة مؤلفاته.
  8. رفع الاشتباه مـ 2 صـ 32.
  9. المجلد 3، الصفحات 925-929.
  10. تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري – ضمن «آثار المعلمي» ١٥/‏٣٢٨
  11. عمارة القبور في الإسلام – المبيضة ، ضمن آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني. مـ 5 صـ 13-14.
  12. والقائل هو المعلمي.
  13. علق المعلمي هنا قائلا: (المراد بالاختلاف في المعنى هو الاختلاف المذكور في قول الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] فأما أن يدلّ أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معًا حق، فليس باختلاف بهذا المعنى). ومع أن المحقق جعل نسبة هذا التعليق إلى المعلمي محتملا إلا أن ليس هنا ما يدل على ذلك خاصة وأن التعليقات الأخرى في الكتاب مكتوبة بأسلوبه أو قريب منه. وقد نص في مقدمته القصيرة لكتاب أنه روجع من قبل بعض العلماء، فإن كان مما علقوه على الكتاب إلا أنه لم يكن يطبع دون موافقته على ذلك.
  14. الأنوار الكاشفة مــ 12 صــ 102-103.
  15. الفتح مـ 9 صــ 27.
  16. مصنف عبد الرزاق ٥٩٨٥ ط. الأعظمي.
  17. إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم لعبد السلام مقبل المجيدي، صـ 482.
  18. زلة القاري صـ 389، من مجلة العلوم الإسلامية العدد التاسع 1432هـ.
  19. الأنوار الكاشفة مـــ 12 صــ.111.
  20. الأنوار الكاشفة مـ 12 صـ 3 من ضمن مجموعة مؤلفاته.
  21. انظر صـ 23 من هذا البحث.


Posted

in

by

Tags: