بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن أحاديث إقراء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بقراءات متعددة صريحة صحيحة، لا تحتاج إلى زيادة شرح أو توضيح. والراجحي وإن كان ممن يرى بأن القراءات هي مجرد رخصة للقراءة بالمرادف إلا أنه يقر بهذه الحقيقة. قال: (وسبب إنتشار هذا القول عند المتأخرين ورود بعض النصوص التي ظاهرها يفهم منه أن الأحرف والقراءات كلها منزلة من عند الله.)[1]

ومن أوضح الروايات ما جاء عن أُبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال له: (إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتك القرآن  على سبعة أحرف.) إلا أن الراجحي اعترض على هذا اللفظ وقال أن الصحيح منه: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف.) ونقل هذا اللفظ عن مجموعة من المؤلفات الحديثية كصحيح مسلم (821) والنسائي في الكبير (1/326) وابن أبي شيبة (7/182) وخطّأ الروايات الأخرى التي فيها (تُقرئ أمتًك).[2]

وهنا وقع الراجحي في بعض الأخطاء من أجل اعتماده على طبعات غير متقنة من هذه المؤلفات. فمثلا، اعتمد على طبعة دار الكتب العلمية لسنن النسائي الكبير  التي نشرت في عام 1411هـ  وقدّمها على طبعة دار التأصيل 3/167  التي طبعت في 1433هـ. وطبعة دار التأصيل أتقن بكثير واعتمدت على نسخ لم يعتمدها غيرها، وفيها (إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك.)

وذكره الراجحي من طريق آخر، قال: (عبد الله بن عيسى عن ابن أبي ليلى به بلفظ (تقرأ) عند ابن أبي شيبة (7/182.)

قلت: وهذا النقل كان من طبعة دار الفكر 1409هـ وفيه سقط كبير ودمج لحديثين.

فطبعة دار الفكر كالآتي: (حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني عبد الله بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: ((إن الله يأمرك أن تُقرئ  أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما  حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.))

 والصواب أنه روي هكذا: (حدثنا محمد بن بشر قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثني عبد الله بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أخبرني أُبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن ربي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على سبعة أحرف)).

حدثنا غندر، عن شعبة،  عن الحكم، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أُبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فقال: ((إن الله يأمرك أن تُقرئ  أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما  حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا.)) [3] 

قلت: والذي سقط هو ما تحته خط، فإن عبد الله بن عيسى لم يرو حديث: (تُقرئ أمتك).

وأصل هذا الاختلاف بين النسخ قديم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا قولًا واحدًا، فينبغي الترجيح بين اللفظين. وكان سبب اختلاف النساخ في ضبط هذه الكلمة يرجع في الأصل إلى تساهلهم في كتابة الهمزة. قال الفراء: (العرب تكتب يستهزئ يستهزأ، فيجعلون الهمزة مكتوبة بالألف في كل حالاتها، يكتبون شي شيأ، ومثله كثير.)[4]  وعند تركهم للتشكيل، يُكتب الحديث هكذا: (تقرأ أمتك،) ثم يأتي الناسخ الآخر فيجعلها (تَقرأ أمتُك.) إلا أن بعض النساخ المتقنين انتبهوا لذلك فجعلوها (تُقرأ أمتَك،) وهو ما نجده في الورقة السادسة من نسخة الإسكندرية من صحيح مسلم مثلًا.

فإن علمنا ذلك فيمكننا أن نقرأ النسخ المهملة برفع تاء (تقرأ) ونصب تاء (أمتك) من غير تردد.

وأما أكثر الكتب المطبوعة فقد جاءت (تُقرئ أمتَك). وذكر منها الراجحي أنها هكذا في سنن أبي داود (1478) ومسند أحمد (35/103) والطيالسي (558) وأبي عوانة (3840) وابن حبان (3/13) وابن عبد البر في التمهيد (8/287).

ومما يرجح لفظ (تُقرئ) سياق الحديث. فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور، والحديث فيه: (أن الله يأمرك،) وليس فيه: (أن الله يأمر أمتك.) فعليه هو صلى الله عليه وسلم أن يقرأ بالسبعة، ولو كان غير ذلك لقال جبريل: (إن الله يأمر أمتك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف.)

ويرجحه أيضًا زيادة الضبط في بعض روايات الحديث، حيث نجد ابن حبان والشاشي يرويان الحديث بكلا اللفظين معًا.

ففي رواية ابن حبان: (يا محمد إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على حرف واحد… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على حرفين… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك هذا القرآن على ثلاثة أحرف… إن الله يأمرك أن تقرأ هذا القرآن على سبعة أحرف.)[5]

وأما الذي في الشاشي، فرواه بهذا اللفظ: (إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك على حرفين… إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على ثلاثة أحرف… إن الله يأمرك أن تُقرئ أمتَك على سبعة أحرف.)[6]

وهاتان الروايتان وإن اختلفتا قليلًا إلا أن الملاحظ عدم ربط الأمر الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم بالأمة، فهو المأمور بالقراءة صلوات ربي عليه. وزيادة الضبط هذه تثبت المعنى الظاهر، وهو أن القراءة بالسبعة لم تكن من باب التشهي أو القراءة بالمرادف.

ويؤيد جميع ما سبق ما روي عن ابن عباس كما في صحيح البخاري: (أقرأني جبريل على حرف، فلم أزل استزيده حتى انتهى إلى سبعة أحرف.)[7] وظاهره كما لا يخفى أن جبريل عليه السلام أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم السبعة كلها.

والحمد لله رب العالمين.

 

المصادر:

الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ابن حبان، دار المعرفة / بيروت، ط1: 1425هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام للنشر / الرياض، ط1: 1419هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

مسند الشاشي، الشاشي، مكتبة العلوم والحكم / المدينة المنورة، ط1: 1414هـ

مصنف ابن أبي شيبة، أبو بكر بن أبي شيبة، دار القبلة /جدة، ط1: 1427هـ.

معاني القرآن، الفراء، عالم الكتب /بيروت، ط: 1403هـ.

 


 

[1]  المسائل الكبرى ص150

[2]  المسائل الكبرى ص225-228

[3]  مصنف ابن أبي شيبة 15/504 ت. عوامة.

[4]  معاني القرآن 3/20.

[5]  الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (738)

[6]  مسند الشاشي (1457)

[7]  صحيح البخاري (3219)

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You may use these HTML tags and attributes:

<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>