بسم الله الرحمن الرحمن
وقفت على كلام صالح بن سليمان الراجحي في نفيه لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة فوجدته يضع النصوص في غير محلها، مستخرجا منها استنتاجات لا علاقة لها بمراده، وغايته كما هو معلوم إنكار نسبة الأحرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوصفها بالرخصة العامة وأنها ليست وحيا. فعلم عندما كتب ما سطره من التراهات أن القارئ سيعترض بالإشارة إلى ما يدل على أن القراءة سنة في الكلمات والأداء، فجمع ما استطاع من الأدلة على نفي الإمالة ابتداءً بقوله: (لو كانت القراءة بالإمالة قد وقعت من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا بد أن تنقل وتذكر بكل وضوح، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل كل ما يتعلق بكيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن).[1]
هنا يطالب الراجحي بنصوص صريحة، يقول فيها الصحابي: (هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالإمالة)، وأما قراءة الصحابي نفسه بالإمالة فغير مقبولة عنده، إذ أن من يفعل ذلك يفعله من تلقاء نفسه، فأقول أن الصحابي عندما يقرأ بالإمالة، فهذا يكفي لنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وعندما يقرأ التابعي بالإمالة فذلك ما أخذ من شيخه الصحابي وإن لم يصرح بذلك.
والصحابة كتبوا المصاحف، فجعلوا الياءات في موضع الألفات، فكتبوا (مجريها) بالياء لتحتمل الإمالة، فقرأ بذلك حفص عن عاصم وورش عن نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي موافقة لخط المصحف واتباعًا للأثر. فلو كانت القراءة بالإمالة بدعة لكان السبب في نشرها الصحابة لاتفاقهم على رسم هذه الكلمة وغيرها بالياءات.
ثبوت الإمالة
يقول الراجحي: (إن الذين اشتهروا بالإمالة من القراء هم من وجدوا في بيئة أهلها لهجتهم الإمالة)[2]، وهذا صحيح، ولكن كيف نفسر من قرأ بالإمالة مخالفة لبيئته؟ فالقراءة بالإمالة ثابتة عن ابن عامر الشامي ونافع المدني. وقرأ حفص (مجريها) بالإمالة وقراءته قراءة عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.
قال الراجحي معلقًا على ذلك: (الذي يبدو والله أعلم أن هذه الإمالة الفريدة قد أتت إلى قراءة حفص من الإمالات التي في قراءة أبي بكر. فإما أن يكون مصدرها الإمام عاصم نفسه حين أقرأ حفصًا. أو أنه اختيار واستحسان من حفص في هذا الموضع، اقتباسًا من الإمالات التي في قراءة أبي بكر. وهذا الاحتمال الثاني هو الأقرب والله أعلم).[3]
ولا أدري ما علاقة ذلك بأبي بكر إذ أنه لم يقرأ بالإمالة في هذا الموضع فهذا مردود.[4]
ثم قال: (وقد ذكر بعض المتخصصين أن حفصًا كانت له طريقة لطيفة في اختياراته، وهي أنه عندما يختار قاعدة ليسير عليها في قراءته يتعمد أن يخالفها في موضع أو مواضع قليلة لينبه على القراءات المخالفة له).[5]
هب أنّا سلّمنا بذلك، أين الدليل على أن حفصًا لم يقرأ بذلك نقلًا عن عاصم؟! وهذا فهم المتخصص الذي نقل عنه الراجحي – وهو الشيخ وليد المنيسي – الذي قال في مشاركته: (هذا مع تأكيدنا على أن حفصا وغيره من القراء ما كانوا يقرؤون بشيء لم يقرئهم به مشايخهم بالسند المتصل إلى رسول الله عن جبريل عن رب العالمين سبحانه ، وإنما كانوا يتخيرون من بين الأوجه الكثيرة التي قرؤوا بها فيختارون القراءة بهذا الوجه في موضع ، وبالوجه الآخر في موضع آخر ، وكلها كاف شاف) [6].
وهذا حفص يصرح بأنه لم يخالف عاصمًا إلا في كلمة واحدة، وهي (ضعف)[7] مع خلو هذا اللفظ من اختلاف في المعنى.[8]
ثم قال الراجحي: (فالذي ينبغي الجزم به أن قراءة أبي عبد الرحمن السلمي التي تلقاها من علي وعثمان ليس فيها الإمالة البتة لا في (مجراها) ولا غيرها)[9]، وهذا كلام يفتقر إلى الدليل فلا يُلتفت إليه إذ الظاهر أن حفصًا تلقاه من شيخه عاصم، الذي تلقاه من شيخه السلمي، الذي تلقاه من كبار الصحابة.
ويضاف على جميع ما تقدم أن نافعًا عُرف عنه الإمالة إلا أن الراجحي اعترض على ذلك بقوله: (ينبغي أن يُعلم أن الإمالات الكثيرة التي في قراءة ورش وهو أحد الرواة عن نافع لم يأخذها ورش عن نافع، فإن الإمام نافع لم يعرف بالإمالة البتة، فهو مدني، ولم يكن أهل المدينة ممن يميلون، بل لهجتهم خالية من الإمالة تمامًا).
وقال: (أن الذين قرؤوا على نافع قراء كثر لم تشتهر الإمالة عن أحد منهم غير ورش، وعلى رأسهم قالون).[10]
قلت: لا أدري ما قصد الراجحي بقوله يشتهر هنا، فهل قصد أن قالون لم يكثر من الإمالة؟ هل قصد بذلك أنه ليس في قراءة قالون أي مثال للإمالة؟ فلو كان ذلك قصده فهو غير صحيح، فقد قرأ (جرف هار) بالإمالة.[11]
وإن كان يقصد بقوله (لم يشتهر) أنه لم يكثر، فهذا صحيح، إلا أن هذا دليل عليه وليس له، إذ وجود في رواية القارئ ما يخالف أصله في القراءة دليل على أنه تلقاه.
ثم أن الراجحي حيّر القارئ بالمطلوب، فكنا إذا أشرنا إلى المكثرين من الإمالة قال: (هذا يدل على اجتهاده)، وإذا أشرنا إلى المقللين من الإمالة قال: (هذا لا يكفي لإثبات الإمالة). فما المطلوب إذًا؟َ!
ويُضاف إلى جميع ذلك أنه ثبت عن نافع قراءته بالإمالة بين بين في مواضع كثيرة، كما في رواية إسماعيل بن جعفر والمسيبي.[12]
قال السيوطي: (أما من أمال فكل القراء العشرة إلا ابن كثير فإنه لم يمل شيئا في جميع القرآن).[13]
وهذا يكفي القارئ المنصف، إذ يبعد اتفاق هؤلاء على الإمالة مع اختلاف أمصارهم ومشايخهم لو لم يكن ذلك من باب التلقي.
اعتراضات الراجحي
ومن جهة أخرى حاول الراجحي أن يطعن في الإمالة بنقل ما ذكره أهل العلم في نقدهم لقراءة حمزة، فقال: (ليس الإمام أحمد وحده هو من كره الإمالة، فقد كرهها جمع كبير من كبار علماء الأمة المحققين، كالإمام مالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبي بكر بن عياش، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن قتيبة، وبشر بن الحارث، ويعقوب بن شيبة، وعلي بن المديني، والساجي، والأزدي، وابن دريد، وحماد بن زيد، وغيرهم).[14]
وعند الرجوع إلى النصوص التي نقلها الراجحي نجد التالي:
ذكر الراجحي مجموعة من العلماء ممن عاب على حمزة قراءته مع عدم ذكرهم للإمالة كأمثال: أبي بكر بن عياش، وابن مهدي، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن هارون، وعبد الله بن إدريس، وسفيان بن عيينة، وابن قتيبة، وبشر بن الحارث، وعلي بن المديني، والساجي، والأزدي، وابن دريد، وحماد بن زيد، إلا أن ليس في كلامهم ما يدل على كراهية الإمالة.[15] كيف ذلك وأبو بكر بن عياش اشتهر بالإمالة؟![16] وكان ابن قتيبة يقدم الإمالة على التفخيم في مواضع فلا ينبغي أن يحمل كلامه في حمزة على هذا.[17] وقد ذكر عن أهل العلم أسباب أخرى عيبت من أجلها قراءة حمزة كالإفراط في المد والهمز والإشباع والإفحاش في الإضجاع في الإدغام،[18] فكيف يُحمل كل نقد مُجمل على أنه إنكار للإمالة؟!
وأما كراهية مالك للإمالة ليس موجود في كلامه ولو وجد لما اكتفى الراجحي بنقل ذلك عن ابن عاشور.[19]
وأما يعقوب بن شيبة، فلم يطعن في الإمالة بنفسه ولكن ذكره عن غيره من أهل العلم، وقال أن ذلك (لإفراطه في الكسر وغيره)، أي للإفراط في الإمالة، وأما مجرد وجود الإمالة فلم يرد أن أحدا طعن بها.[20]
وأما كلام الإمام أحمد فصريح على أنه رجع عن كلامه في قراءة حمزة، قال محمد بن الهيثم: سألت أحمد ما تكره من قراءة حمزة؟ قال: الكسر والإدغام، فقلت له: حدثنا خلف بن تميم، قال: كنت أقرأ على حمزة فمر به سفيان الثوري فجلس إليه وسأله عن مسألة، فقال له: يا أبا عمارة أما القرآن والفرائض فقد سلمناها لك. قال أحمد: أنتم أهل القرآن وأنتم أعلم به.
قال أبو يعلى: ظاهر هذا الرجوع عن الكراهة والذي عليه أصحابنا الكراهة).[21]
ثم اعترض الراجحي بقوله: (ما نقله محمد بن الهيثم ليس صريحًا في رجوع الإمام أحمد عن كراهته للإمالة، بل هو كلام عام يفيد أن الإمام أحمد يوافق سفيان الثوري في أن حمزة رحمه الله من أئمة القراءة، ولكن هذا لا ينفي النقد).[22]
قلت: وكيف لا يُعتبر هذا تراجع ولم يذكر محمد بن الهيثم هذا الأثر إلا ليرد على الإمام أحمد، فقبله منه، وأقر أحمد بخطأه؟!
وأود أن أنبه القارئ على كلام أبي يعلى الذي تغافل عنه الراجحي، قال: (وكراهته لا يخرجها عن أن تكون قراءة مأثورة لكن غيرها من اللغات أفصح وأظهر).[23]
ويُضاف على جميع ذلك أن الإمام أحمد لم ينكر على أحد من أهل العراق إلا حمزة، وكان يُعرفون بالإمالة، ويفضل قراءة الأعمش على قراءة حمزة،[24] مع وجود الإمالة في قراءته أيضًا.[25]
ولم يبق إلا قول علي بن المديني، لو فرضنا صحته، فيُحمل على ما قصده أبو يعلى.
ومما استدل به الراجحي على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بالإمالة إنكار بعض أهل العلم لإمالاته، فقال: (فإذا كان ابن[26] قتيبة بهذه المنزلة من الكسائي وأنه من أكثر الناس ملازمة له ومع ذلك تكلم الناس في إمالاته وأنها من اختياره ووضعه وسموها (إمالة قتيبة) فماذا يعني هذا؟ إن هذا مما يدل على أن الإمالات إنما هي من بعض القراء رحمهم الله، وأنها من لهجات العرب المعروفة، وبعضها من عادة بعض الكوفيين في كلامهم وألفاظهم كما قال الفارسي. إنه يؤكد بكل وضوح ما ذكرته من أن تلك الإمالات لم تكن منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه، وإنما هي من لهجات بعض القراء رحمة الله عليهم أجمعين.)[27]
قلت: بل اعتراضهم على إمالة قتيبة كان من أجل تفرده بها، ولو لم يتفرد بها لما تكلم في إمالاته أحد، وهذا يدل على قبولهم لأصل الإمالة. وهذا كالاعتراض على من صلى في المقبرة إذ ليس الإنكار على الصلاة نفسها ولكن على الموضع الذي كانت الصلاة فيه.
وذكر الراجحي أمورًا أخرى واهية لم أر أنها تستحق الرد، إذ ليست صريحة في إنكار سنية الإمالة، كتعليل بعض القراء لقراءتهم بالإمالة،[28] وكأن التعليل يدل على عدم ثبوت نسبة الإمالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يستغرب ممن له اطلع على كتب توجيه القراءات، فهي ملئية بالعلل التي من أجلها اختار فيها القراء اختياراتهم.
ومنها ما يستحق الرد ولكنها ترتبط بأمور ينبغي الرد عليها في مشاركة منفصلة كعلاقة الإمالة بالأحرف السبعة.
والحمد لله رب العالمين.
المصادر:
الاتقان في علوم القرآن، السيوطي، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429هـ.
أدب الكاتب، ابن قتيبة، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1408هـ.
تأويل مشكل القرآن، ابن قتيبة، ت: سعد بن نجدت عمر، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1432هـ.
التعريف في اختلاف الرواة عن نافع، الداني، ت: محمد السحابي.
جامع البيان في القراءات السبع، الداني، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1426هـ.
السبعة في القراءات، ابن مجاهد، ت: شوقي ضيف، دار المعارف / القاهرة، 1972م.
طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1417هـ.
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله، أحمد بن حنبل، ت: زهير شاويش، المكتب الإسلامي / بيروت، ط1: 1401هـ.
المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.
معاني القراءات، أبو منصور الأزهري، ت: محمد بن عيد الشعباني، دار الصحابة / طنطا، ط1: 2007م.
النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، دار الكتب العلمية / بيروت، 2011م.
نظم الجمان في قراءة الأعمش ابن مهران، توفيق إبراهيم ضمرة، دار الماهر بالقرآن / القاهرة، 1433هـ
[1] المسائل الكبرى ص497.
[2] المسائل الكبرى ص 504.
[3] المسائل الكبرى 541.
[4] السبعة ص333.
[5] المسائل الكبرى 541.
[6] https://vb.tafsir.net/forum/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%85/%D9%85%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D9%88%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%AD%D9%81-%D9%88%D8%B6%D8%A8%D8%B7%D9%87/1266-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%B8%D9%87%D9%88%D8%B1-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%81%D8%B5-%D9%88%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7
[7] جامع البيان ص532.
[8] معاني القراءات للأزهري ص 393.
[9] المسائل الكبرى ص542.
[10] المسائل الكبرى ص 507.
[11] التعريف ص69.
[12] التعريف ص70.
[13] الاتقان ص196.
[14] المسائل الكبرى ص517 – 518.
[15] المسائل الكبرى ص511- 515.
[16] المسائل الكبرى ص541.
[17] أدب الكاتب ص181.
[18] تأويل مشكل القرآن ص79.
[19] المسائل الكبرى ص511.
[20] المسائل الكبرى ص512.
[21] المسائل الكبرى ص517.
[22] المسائل الكبرى ص518.
[23] طبقات الحنابلة 1/300.
[24] مسائل الإمام أحمد ص83.
[25] نظم الجمان في قراءة الأعمش ابن مهران ص21-24.
[26] والصحيح: قتيبة.
[27] المسائل الكبرى ص528 – 529.
[28] المسائل الكبرى ص523.