بسم الله الرحمن الرحيم
يتمسك بعض القائلين بنظرية القراءة بالمعنى بقراءة منسوبة إلى بعض الصحابة، وهي قولهم: (إن شجرة الزقوم طعام الفاجر)، فهذا رد مختصر على هذه الشبهة.
أبو الدرداء والقراءة البديلة
روي هذا الحديث من طرق ثابتة؛ غير أنه ثمة اختلافات بسيطة لا ينبغي غض الطرف عنها:
- روى سعيد بن منصور عن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا أعجميًا، فقال: (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فلم يُحسن الأعجمي يقول: (الأثيم)، فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: طعام الفاجر.[1]
- وروى أيضًا عن همام قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما رأى أبو الدرداء أنه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[2]
- روى الطبري عن همام، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فقال فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم، قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[3]
- وروى أيضًا عن همام، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلًا: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) فقال: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر.[4]
- روى الحاكم عن همام: عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قرأ رجل عنده (إن شجرت الزقوم طعام الأثيم)، فقال أبو الدرداء: قل: (طعام الأثيم)، فقال الرجل: طعام اليتيم، فقال أبو الدرداء: قل: طعام الفاجر.[5]
تُظهر الأحاديث الثلاثة الأولى والحديثان الأخيران اختلافات بالغة. ففي الأحاديث الثلاثة الأولى، نجد أبو الدرداء يقول: طعام الفاجر، فيكون هذا تفسيرًا منه، وأما في الحديثين الأخيرين، فنجد أبا الدرداء يأمر الرجل بشكل واضح، فيقول: “قل: طعام الفاجر”. لا يمكن استخدام الأحاديث الثلاثة لزعم قيام أبي الدرداء بتعليم لفظ مختلف.
أما فيما يتعلّق بحكم الأحاديث، فجميعها صحيحة، بخلاف الحديث الأول الذي يرويه إبراهيم، لكونه منقطعًا في موضعين. يروي سعيد بن منصور الحديث عن المغيرة، الذي سمع من إبراهيم. غير أن سعيد لم يلتقِ بالمغيرة قط، كما لم يسمع إبراهيم هذا الحديث من أبي الدرداء، كما تشير الأحاديث الأخرى. ينسب المحققون[6] هذا الانقطاع إلى أخطاء النسّاخ.[7] وعلى أي حال، لا يعتبر الحديث مشكلا، وذلك لتوافقه إلى حد ما مع الحديث الثاني الذي ذكره سعيد بن منصور. والأهم من ذلك كله، يأتي الحديث الأول من طريق المغيرة عن شعبة، في حين تأتي الأحاديث الأخرى من طريق الأعمش عن إبراهيم، فهذه متابعة قوية للحديث الثاني.
ومع إبقاء ذلك في الحسبان، يصعب تحديد أي من المجموعتين تحتوي اللفظ الدقيق، إلا أن هذا الإحتمال يقلل من قوة استخدام هذه الرواية كدليل على قراءة أبي الدرداء بالمعنى.
الدافع من وراء استخدام المرادف
إذا افترضنا صحة اللفظ الثاني للرواية، وتعليم أبي الدرداء للأعجمي استخدام المرادف، فمن الطبيعي أن نتساءل عن دافع أبي الدرداء من وراء ذلك.
لا تعطي المجموعة الثانية من الأحاديث أي أسباب، في حين توفّر المجموعة الأولى سياق هذه الرواية حيث أن الرجل لم يكن عربيا، ولم يكن باستطاعته قول (طعام الأثيم) بسبب لهجته.
يعلّق أبو بكر الأنباري (٣٢٨هـ) على حديث مماثل يذكر عبد الله بن مسعود[8] بدلا من أبي الدرداء: لا حجة في هذا للجهال من أهل الزيغ، أنه يجوز إبدال الحرف من القرآن بغيره، لأن ذلك إنما كان من عبد الله تقريبا للمتعلم، وتوطئة منه له للرجوع إِلى الصواب، واستعمال الحق والتكلم بالحرف على إنزال الله وحكاية رسول الله صلى الله عليه وسلم.[9]
ويحتمل أيضًا أن أبا الدرداء اختار جعل الرجل يقرأ (طعام الفاجر) لأن الرجل ببساطة لم يستطع قراءة (طعام الأثيم)، حيث إن استخدام لفظ (الفاجر) كمرادف لـ(الأثيم) أكثر توافقا مع القرآن الكريم من قراءة الرجل من (إن شجرة الزقوم طعام اليتيم)، ما يوحي بدخول الأيتام إلى النار.
ويحتمل أيضًا أن القراءة (طعام الفاجر) منزلة حقيقة، وهذا ما رجحه الباقلاني.[10]
منهجية أبي الدرداء
عندما كان أبو الدرداء في الشام، حاول أهلها تصحيح قراءته، بجعله يقرأ ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾ [الليل: ٣] بدلا من (والذكر والأنثى). إلا أن أبا الدرداء لم يتخلّ عن الطريقة التي كان يقرأ بها، كما أنه لم يقل لأهل الشام بأن فحوى القراءتين متشابه. بل على العكس، ظل أبو الدرداء متشبثا بموقفه قائلا: (ما زال هؤلاء حتى كادوا يشككونني، وقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، [11] متصديا لجميع محاولات أولئك الذين كانوا يحاولون التأثير عليه. وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على قراءته للقرآن بالطريقة الوحيدة التي عرفها: حرفيا.
حفظ أبو الدرداء القرآن كاملا في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم. وعلّم ألفا وستمائة شخصًا قراءة القرآن الكريم في دمشق وحدها.[12] وكلّف عشرا من تلامذته تعليم عشرة آخرين، وعندما يتقن واحد من هؤلاء العشرة القراءة، يترفع ليأخذ من أبي الدرداء مباشرة. لا نجد في دمشق تلامذة يقرؤون (طعام الفاجر) بدلا من (طعام الأثيم). فكل ما نجده رواية واحدة فيها أن أعجميا لم يكن بمقدوره القراءة بالعربية.
كما كان أبو الدرداء شديد الحرص في كيفية الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن متأكدا من اللفظ الدقيق، كان يقول: (أو نحوه) في نهاية الحديث، خوفا من نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم شيئا لم يقله.[13] فكيف يُتهم باستبدال ألفاظ القرآن؟!
المصادر:
أحكام القرآن، القرطبي، دار الكتب المصرية / القاهرة، ط2: 1384هـ.
تاريخ دمشق، ابن عساكر، دار الكتب العلمية / بيروت، 2012.
جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1412هـ.
سنن سعيد بن منصور، سعيد بن منصور، دار الألوكة / الرياض، ط1: 1433هـ.
صحيح البخاري، البخاري، دار السلام / الرياض، ط2: 1419هـ.
المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوري، المكتبة العصرية / بيروت، 2006.
[1] سنن سعيد بن منصور 7/326
[2] سنن سعيد بن منصور 7/326
[3] تفسير الطبري 11/243
[4] تفسير الطبري 11/243
[5] مستدرك الحاكم 4/1380-1381
[6] بإشراف د. سعد الحميد ود. خالد الجريسي.
[7] سنن سعيد بن منصور 7/326.
[8] الرواية التي ذكرها الأنباري هي متطابقة إلى حد كبير مع رواية أبي الدرداء السابقة، إلا أنه ثمة انقطاع إذ لم يسمع ابن عون من ابن مسعود، ثم إن التشابه بين الروايتين تشعر بأن الحادثة واحدة، فرواية أبي الدرداء هي الثابتة.
[9] أحكام القرآن 16/149.
[10] الانتصار ص325.
[11] صحيح البخاري (6278)
[12] تاريخ دمشق 1/223
[13] تاريخ دمشق 25/505-506