حقيقة نظرية ياسر قاضي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن المطلع على مقالة الداعية ياسر قاضي (الأحرف السبعة – دراسة في بيان وجاهة القول بالرخصة الإلهية في الأحرف) يجد فيها بعض الغموض لعدم توفر تعريف دقيق لما سماه الرخصة الإلهية. والمقالة ليست بالقصيرة، وما تقتضيه النظرية من التفاصيل الخطيرة قد تفوت القارئ لو لم يقرأها بتأنٍ. ولأجل ذلك، قررنا جمع بعض الجمل المبثوثة في المقالة في مكان واحد تسهيلًا للقارئ في العثور عليها، لكي تكتمل الصورة في نظره لما تقتضيه النظرية. وسنعلق على بعض ما يقوله الكاتب بغية التوضيح، لا الرد، فذلك سيكون في المقالات الأخرى في موقعنا.

 

معنى الأحرف السبعة

قال الكاتب: (يدّعي النموذج البديل أنّ (الأحرف السبعة) هي تسهيل إلهيّ سمح للصحابة بتلاوة القرآن وفقًا للهجاتهم وتبعًا لغاية ما يسعهم تذكّره بشرط أن لا يخلّ بالمعنى. في هذا النموذج تلا النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن بطريقة واحدة (حرف واحد)، لكن تمّ الترخيص للصحابة بتلاوته بــ(عدة ألفاظ)، وبـ(صيغ مختلفة)، (وهي أبسط طريقة لترجمة عبارة “الأحرف السبعة”) ما دام المعنى محفوظًا.)

وقال أيضًا: (ومن ثَم ستُفهم العبارة: (أُنزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحرف)، وفقًا لهذا النموذج؛ على أنها بمعنى: «نزلَ الإِذْنُ الإلهيّ بالترخيص بتلاوة القرآن بعدة صيغ».)

قلت: فالرقم سبعة عنده مجاز للكثرة والتنزيل أيضًا مجاز للإذن أو الرخصة.

ثم شرح الكاتب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لقراءة هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه عندما تحاكم إليه بعد اختلافه مع عمر رضي الله عنه بقوله: (هكذا أُنزلت)، فقال الكاتب: (وكأنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ تلاوتَك مُعتمَدة أيضًا مِن قِبَل الله وتُعتبر قرآنًا؛ لأن الله سمح بتلاوة القرآن بعدّة عبارات.)

قلت: إن الاختلاف بين عمر وهشام رضي الله عنهما أدى إلى التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكلاهما يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه، فأمرهما بالقراءة أمامه، فأقر القراءتين بقوله (هكذا أُنزلت). والقراءتان في الواقع صحيحتان منزلتان، قرأ بهما النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن الكاتب ينكر ذلك، فيقول أن قراءة هشام رضي الله عنه منشأها النسيان، فكيف يخبره النبي صلى الله عليه وسلم: (هكذا أُنزلت)، مع أن المتبادر للذهن أن ذلك إقرار حقيقي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه بها؟! وهذا في الواقع اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب لمن تأمل، فإن مفهوم العبارة عند الكاتب تخالف ظاهرها.

 

ما تشتمله رخصة الأحرف السبعة

تقدم أن الكاتب يرى أن الأحرف السبعة تتضمن اللهجات، ثم زاد على ذلك بالآتي:

 

المرادفات وإصابة المعنى العام

قال الكاتب: (مرة أخرى، وكما في الاقتباسات السابقة، نشعر بأنّ (الأحرف السبعة) تتمثّل في تغييرات في الألفاظ منشؤها الصحابة، ما دامت الألفاظ مترادفة ونُقِل المعنى الأصلي.)

قلت: وتوسع في ذلك وضرب مثلًا: (وبالطبع فإنّ الشرط الضروري هو أنه يجب أن يتمّ نقل الدلالة المناسبة؛ لذا فإنّ قول: ﴿اللهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ بدلًا من: ﴿اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾، سيكون مثالًا على ذلك إذا سمح سياق الآية بذلك.)

قلت: فلا يشترط الكاتب أن القراءة بالمعنى تكون مرادفات حقيقة.

وذكر مثالًا آخر: (وهناك روايات عدّة من الأجيال الأُولى تبدو أنها تؤكّد ذات الأمر، كما نجد مثلًا في واقعة مشهورة أنّ ابن مسعود كان يعلِّم شخصًا قراءة: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾ [الدخان: 43- 44]، لكن الرجل لم يتمكّن من قولها، وظلّ يكرر، «…طعام اليتيم». فقال ابن مسعود: «أتستطيع أن تقول: طعامُ الفاجِر؟»، فأجاب الرجل أنه يستطيع، فقال ابن مسعود: «فافعل».)

قلت: تقدم في مقالة أخرى الرد على هذه الشبهة.

 

الاجتهاد

قال الكاتب: (بالطبع، بما أن القراءات ليست متطابقة تمامًا -على الأقلّ في أذهانهم- مع الوحي، سيسمحون ببعض المجالات الطفيفة للاجتهاد في هذا العلم، وهو ما ينصّ عليه صراحة. ويبدو أن هذا هو ما تشير إليه العديد من التحريرات إذا سمحنا لأنفسنا بأخذها على ظاهرها.

وردَ أنّ ابن مسعود كان ينصح طلابه: «إذا اختلفتم في القرآن في الياء والتاء فذكّروا القرآن؛ فإنّ القرآن مذكِّر».)

قلت: والأثر منقطع غير صحيح، وسيأتي بيان ذلك في مقالة أخرى.

 

الإجتهاد في فك رموز الهيكل العثماني

قال الكاتب: (بل إنه يشير إلى وجود مستوى من التفكير المستقلّ كانت عليه الأجيال الأُولى من القرّاء، وخاصة إذا تعلق الأمر بتصريف كلمة تسمح هيكلتها في المصحف العثماني بقراءات متعدّدة.)

ويقول أيضًا شرحًا لكلام لابن جني: (بتعبير أوضح يقول: إنه إذا كان بإمكان الجيل الأول استبدال كلمة بأخرى وكان ذلك يُعتبر أمرًا صحيحًا، فإنّ من الأَوْلى أن تختلف القراءات اللاحقة في فكّ تشفير كلمة هيكلية في الخطّ العثماني، ويجب اعتبار كلّ هذه الاختلافات صحيحة.)

 

النسيان

قال الكاتب: (في بعض الأحيان، كما في حالة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم رضي الله عنهم، قد تكون تغييرات اللفظ ناتجة عن النسيان، خاصة وأنّ هشامًا كان معتنقًا جديدًا للإسلام.)

وأشار في الهامش إلى وقوع ذلك من ابن مسعود رضي الله عنه: (إنّ ابن مسعود يُجادل للحفاظ على ألفاظه، حيث إنها (وفقًا لذاكرته) هي الكلمات النبوية الأصلية التي سمعها هو بنفسه مِن فِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أمّا سبب اختيار عثمان لحرف زيد، فالجواب واضح وسيتمّ ذِكره لاحقًا في هذا المقال: فقد اشترط عثمان نسخة فعلية مكتوبة من الوحي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلقينها بنفسه، بينما اعتمد ابن مسعود على ذاكرته.)

قلت: ونجد الكاتب ينسب هذا الرأي إلى الشافعي أيضًا: (ومن الجدير بالملاحظة أنّ الشافعي هنا يربط بين تغيير الألفاظ ونسيان الذاكرة، ويرى أنّ ذلك جزء من التسهيل في (الأحرف السبعة).

قلت: وهذا تقدم الرد عليه أيضًا في مقالة أخرى.

 

أخطاء لجنة عثمان رضي الله عنه

قال الكاتب واصفًا للاختلافات التي وقعت بين المصاحف التي أرسلها عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار: (في رأي مؤلِّف هذا المقال، من المشكل، بل من المحتمل أن يكون مسيئًا استخدام كلمة (خطأ) أو (وَهْم) عند الحديث عن كتاب الله. يتعارض وصف هذه الاختلافات بأنها (أوهام) بشكل مباشر مع النهي الصريح المذكور في أحاديث الأحرف نفسها، مثل: (لا تجادلوا في القرآن…)، و(لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ…)، وغيرها من العبارات النبوية. في الواقع، يعتبر هذا التوجّه للإشكال على هذه الاختلافات واعتبارها أوهامًا هو بالضبط ما كان عليه الأمر لدى المعتنقين الجُدد خلال حروب عهد عثمان حين كادوا يكفّرون بعضهم بعضًا بسبب اختلافاتهم. عندما يفهم المرء نموذج الرخصة الإلهية، تصبح هذه الاختلافات أمثلة مثالية وبسيطة عليه، ومسموح بها بموجب أحاديث الأحرف. ولذلك في رأيي: فإن هذه الاختلافات ليست ولا ينبغي أن توصف بأنها (أوهام) أو (أخطاء).)

قلت: الكلام واضح أن المؤلف يعتبر وصفها بالأخطاء أمرًا محذورًا شرعًا، مع كونها اختلافات غير متعمدة في الحقيقة.

فيقول أيضًا: (بالطبع ليس من المستحيل -وإن كان مستبعد عقلًا وعرفًا- أن تكون هذه الاختلافات مقصودة.)

 

الجمع العثماني والرخصة الإلهية

قال الكاتب: (فقد اشترط عثمان نسخة فعلية مكتوبة من الوحي قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتلقينها بنفسه.)

وقال: (لقد نجح مشروع عثمان في الحفاظ على الحرف الأصلي الذي تمّ به الوحي القرآني، وإن بقي بعض الاختلافات اليسيرة التي لا تؤثِّر في هذا الحفظ.)

قلت: فما هي هذه الاختلافات؟

قال الكاتب: (واستنادًا إلى هذا النموذج، فإنّ جواز القراءات المتغيرة للحرف المحفوظ بواسطة عثمان تكون تحت نطاق رخصة الأحرف. ومن ثم، يكون مصدر الاختلافات في القراءات ثلاثة:

أولًا: اللكنات وظواهر النطق الذي يختلف فيه العرب من مناطق وقبائل متعدّدة (مثل الإمالة والغنة والإدغام… إلخ).

ثانيًا: اجتهاد النحاة والقرّاء المؤهّلين في القرن الأول والثاني في فكّ رموز نسبة صغيرة من التشكيلات، وإعراب كلمات معيّنة بناءً على السياق القرآني ولغات العرب (مثل أغلب الخلافات في التشكيل والإعراب).

وأخيرًا والأقلّ شيوعًا: الاختلافات البسيطة بين المصاحف العثمانية الرسمية (مثل: ﴿وَوَصَّى﴾ أو ﴿وَأَوْصَى﴾).)

قلت: يُفهم من كلام المؤلف أن الرخصة وما يتضمنها من الاجتهادات والأوهام – وإن لم يعبر عنها بذلك – بقيت في القراءات العشرة إلى اليوم.

 

حفظ القرآن وإعجازه

يتبنى الكاتب القول بأن القرآن محفوظ وأنه معجز مع تسليمه بأن ما يُقرأ به اليوم يشتمل على أخطاء الصحابة والقراء – مع تورع الكاتب عن استخدام كلمة (أخطاء) -. قال الكاتب:

(يمكن أيضًا القول بأنّ الجمع العثماني للقرآن هو نتيجة لحفظ الله، وهو بطبيعته حرف مُنزل أصلي، وهذا الحرف هو المعجز به لا يمكن الإتيان بمثله. الاختلافات البسيطة جدًّا ضمن القراءات المعترف بها، خصوصًا عندما يتم مقارنة تلك الاختلافات بالاختلافات المعروفة قبل الجمع العثماني، لا تؤثِّر على دعوى الحفظ ولا على الطابع المعجز للقرآن.)

قلت: وهذا القول يعارض المنطق إذ لا يستقيم الجمع بين فكرة الإعجاز الإلهي وحفظ القرآن مع وجود أخطاء البشر، فلا أدري كيف يستطيع أن يقول: (وهذا الحرف هو المعجز به لا يمكن الإتيان بمثله).

ويعلم الكاتب ذلك حقيقة، فنجده يحث على دراسة هاتين المسألتين في ضوء ما توصل إليه.

قال الكاتب: (ما تزال هناك حاجة إلى إجراء استقراء منهجي ودقيق لكيفية توافق نموذج القراءة بالمعنى مع العقيدة المعيارية في حفظ القرآن وإعجازه.)

 

الخلاصة

يعتبر الكاتب الأحرف السبعة عبارة مجازية لتجويز القراءة للجيل الأول بقراءة القرآن بالمرادفات واللهجات والاجتهادات، وشملت أيضًا الرخصة للقراءة الناتجة عن النسيان وأخطاء النساخ.

وهذا التعريف للأحرف السبعة لم يسبق الكاتب إليه أحد.

ويرى الكاتب أيضًا أن هذه القراءات أصبحت محدودة بعد جمع عثمان رضي الله عنه إلا أنها لازالت موجودة في قراءتنا، ولكن لا بأس بذلك إذ إن الله تعالى تكفل بحفظ كتابه، ثم وصفه بالمعجز، فهو كذلك أيضًا، على الرغم من الأخطاء البشرية التي تتضمنه.

والله المستعان.

 

والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

“>


Posted

in

by

Tags: