بسم الله الرحمن الرحيم
رغم تركيزنا في هذا الموقع على رد شبهة القراءة بالمعنى وما يتعلق بها، وجدنا في مقالة الداعية الأمريكي ياسر قاضي إتهامًا خطيرًا موجهًا للقاضي أبي بكر ابن العربي. وهذه التهمة، مع أنها جانبية إلا أن لها صلة بموضوعنا، فقررنا ذكرها والرد عليها في أسطر قليلة لنفيد بها القارئ.
ولكن قبل ذلك، يقول الكاتب معلقًا على الاختلافات بين المصاحف العثمانية:
(في رأي مؤلِّف هذا المقال، من المشكل، بل من المحتمل أن يكون مسيئًا استخدام كلمة (خطأ) أو (وَهْم) عند الحديث عن كتاب الله. يتعارض وصف هذه الاختلافات بأنها (أوهام) بشكل مباشر مع النهي الصريح المذكور في أحاديث الأحرف نفسها، مثل: (لا تجادلوا في القرآن…)، و(لَيْسَ مِنْهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ…)، وغيرها من العبارات النبوية. في الواقع، يعتبر هذا التوجّه للإشكال على هذه الاختلافات واعتبارها أوهامًا هو بالضبط ما كان عليه الأمر لدى المعتنقين الجُدد خلال حروب عهد عثمان حين كادوا يكفّرون بعضهم بعضًا بسبب اختلافاتهم. عندما يفهم المرء نموذج الرخصة الإلهية، تصبح هذه الاختلافات أمثلة مثالية وبسيطة عليه، ومسموح بها بموجب أحاديث الأحرف. ولذلك في رأيي: فإن هذه الاختلافات ليست ولا ينبغي أن توصف بأنها (أوهام) أو (أخطاء). لاحظ أيضًا الصياغة الدقيقة التي يستخدمها العالم الكبير ابن العربي لوصف هذه الاختلافات.
بالطبع ليس من المستحيل -وإن كان مستبعد عقلًا وعرفًا- أن تكون هذه الاختلافات مقصودة؛ إذا كان لدى المرء هذا الرأي، يمكن استبعاد هذه النقطة من الخمسة عشر إشكالًا سابقة الذِّكْر.) ا.ه.
قلت: يُفهم من كلام الكاتب أن هذه الاختلافات لم تكن مقصودة، ولكن لا ينبغي وصفها بالأخطاء، فالرخصة الإلهية في زعمه تشمل الخطأ والنسيان، وليس الاجتهاد فقط.
ثم يقول الكاتب: (يقول ابن العربي: «وفي أثناء النقل اختلفت المصاحف في أحرف يسيرة، أربعة أو خمسة، ثم زاد الأمر إلى أن اختلفت القراء في زيادة أربعين حرفًا، منها واو وألف وياء. وأمّا كلمة فلم تكن إلا في حرفين؛ أحدهما في (التوبة)، والآخر في (الحديد): ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ بزيادة (هو) قرأت الجماعةُ إلا نافعًا وابن عامر، وهذا أمر يسير، لا يؤثر في الدّين، ولا يحطّ مِن حفظِ القرآن». انظر: العواصم من القواصم، لابن العربي، ص358- 359.
من الواضح أن ابن العربي يعزو أصل هذه الاختلافات إلى الكُتَّاب، ويشعر بالحاجة للقول بأن ذلك لا يؤثِّر في مفهوم الحفظ الإلهي، هذا التحفّظ يكون مطلوبًا فقط في حالة إيمان المرء بنموذج الإذن الإلهي، كما يفعل ابن العربي حسب النقل السابق، وعندها فقط يكون هذا التوفيق ممكنًا.) ا.ه.
قلت: قال أبو بكر ابن العربي في نهاية شرحه لسورة التوبة في أحكام القرآن 2/500 (ط. العصرية):
(وهذه المصاحف إنما كانت تذكر لئلا يضيع القرآن، فأما القراءة فإنما أخذت بالرواية لا من المصاحف، إما إنهم كانوا إذا اختلفوا رجعوا إليها فما كان فيها عولوا عليه، ولذلك اختلفت المصاحف بالزيادة والنقصان، فإن الصحابة أثبتت ذلك في بعض المصاحف، وأسقطته في البعض، ليحفظ القرآن على الأمة، وتجتمع أشتات الرواية، ويتبين وجه الرخصة والتوسعة، فانتهت الزيادة والنقصان أربعين حرفًا في هذه المصاحف.)
قلت: وهذا الكلام يناقض تمامًا ما استنتجه ياسر قاضي. ثم إذا رجعنا إلى الكلام السابق المنقول من العواصم لاحظنا أنه ليس فيه إشارة صريحة إلى كون هذه الاختلافات أخطاء أصلًا.
والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.