بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
قبل سنتين، كتبنا مقالة بعنوان: تعريف الأحرف السبعة برخصة القراءة بالمعنى، وبينّا فيها أن مصنفات علوم القرآن لم تذكر القراءة بالمعنى من ضمنها. فنجد ابن حبان (354هـ) يسرد خمسة وثلاثين قولًا في تعريف الأحرف السبعة، وانتخب منها ابن الجوزي (597هـ) المعتبر منها في نظره، ثم جاء السيوطي (911هـ) وذكر ستة عشر قولًا، وليس في شيء منها القراءة بالمعنى. واليوم يأتي الكاتب الأمريكي ياسر قاضي ليقحم نظريته (الرخصة الإلهية) بين تلك الأقوال…
قال:(لكن ماذا عن مراجع علوم القرآن؛ مثل (البرهان) للزركشي و(الإتقان) للسيوطي؟ لأنّ بعضًا يعتقد أنّ (رأي الإِذْن الإلهي) رأي محدَث لم يُسبق إليه من قبلُ ولم يُذكر عند العلماء المحقّقين! ويدّعون أنّ هذا القول لم يُذكر حتى في الموسوعات المعتمدة مثل (البرهان) و(الإتقان).
نقول جوابًا عن هذا الاعتراض: من المؤكد أنهم لم يتجاهلوا ذِكْر نموذج (الرخصة الإلهية) عند تعداد الآراء، حتى لو لم يتّفقوا مع هذا النموذج.
وبالفعل عندما نعيد قراءة هذه المصادر الرئيسة والمشهورة، يتّضح لنا بوضوح شديد أن هذا الرأي تمّ ذِكْره صراحةً. على سبيل المثال، يناقش الزركشي في كتابه (البرهان) التفسيرات المتعدّدة للأحرف، ويذكر الطحاوي بالاسم، ويشير (في الرأي رقم 5) إلى أن حقيقة الأحرف تكمن في الألفاظ المترادفة. يستشهد أيضًا بالعديد من الأمثلة لقراءات الصحابة المتفاوتة وهي ذات الأمثلة التي سبق ذكرها في هذا المقال، ويدّعي صراحة أنّ عثمان حافَظَ على حرف واحد فقط.
أمّا السيوطي في (الإتقان)، فقد أورد قائمة تضم 35 رأيًا حول ما قد تكون عليه الأحرف، ومن ضِمن هذه الآراء، وتحديدًا الرأي التاسع: أنّ الأحرف تمثّل ألفاظًا مترادفة. ويقتبس أيضًا مزاعم الطحاوي حول عدم قدرة الأجيال الأُولى على القراءة والكتابة، مما يجعل من الصعب عليهم حفظ لفظ واحد. ويبيّن هذا الرأي من خلال حادثة ابن مسعود التي أرشد فيها الرجل لتلاوة (طَعَامُ الْفَاجِرِ) بدلًا من ﴿طَعَامُ الأَثِيمِ﴾.
وربما لأنه لم يذكر أحدٌ من هؤلاء المؤلِّفين عبارة (القراءة بالمعنى) ولم يتحدّثوا صراحة حول مصدر هذه المترادفات، أصبح من الأسهل تجاهل هذه الإشارات الواضحة والافتراض -كما فعل العديد من العلماء في وقت لاحق- أن المراد هنا هو المترادفات التي قرأها النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه (أي: نموذج التَّلقين). ولكن يستفاد من نصّ كلام الطحاوي، أنه قد نزل الوحي بلفظ واحد فقط، وأن بقية الألفاظ جاءت من الصحابة، من الواضح أن هؤلاء العلماء لم يقصدوا ما يبدو أن بعضهم قد فهمه منهم.) أ.هـ.
قلت: وكان ابن كثير ممن سبق الزركشي والسيوطي في نسبة هذا القول إلى ابن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي، فاقتصر الكاتب على الإشارة إلى أن ابن كثير نسب هذا القول إلى الطحاوي.
الرد العام
يزعم الكاتب أنه (يتّضح لنا بوضوح شديد أن هذا الرأي تمّ ذِكْره صراحةً)، فأحال إلى القول الخامس عند الزركشي والتاسع عند السيوطي، وليس في التعريف بهذين القولين ما يشير إلى الرخصة الإلهية.
وقال الكاتب: (وربما لأنه لم يذكر أحدٌ من هؤلاء المؤلِّفين عبارة (القراءة بالمعنى) ولم يتحدّثوا صراحة حول مصدر هذه المترادفات، أصبح من الأسهل تجاهل هذه الإشارات الواضحة).
لم يذكروا القراءة بالمعنى، ولا القراءة بالتشهي، ولا القراءة بالاجتهاد، ولا القراءة بالنسيان، ولا الرخصة الإلهية، إنما ذكروا أمثلة لآثار القراءات المرادفة المتقاربة في المعنى، وهذا يكون في القراءة بالتلقي أيضًا. ونجد عند الزركشي ما يعارض هذه النظرية في الأمثلة التي ذكرها، منها حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام قال: (اقرأ على حرف)، فقال ميكائيل: (استزده)، فقال: (على حرفين)، فقال ميكائيل: (استزده)، حتى بلغ سبعة أحرف.[1] ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أُبي، إني أُقرئت القرآن، فقلت: على حرف أو حرفين، فقال لي الملك: على حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة، فقال: على ثلاثة، هكذا حتى بلغ سبعة أحرف).[2]
وهذان الحديثان صريحان في العدد والثاني صريح في التلقي، فكيف غفل الكاتب عنهما؟ وكيف يدعي أن هذا قوله وفيه ما يدل على أن الزركشي والسيوطي لم يريدا ذلك؟
وتحديد العدد بسبعة حقيقة تعارض نظرية الرخصة الإلهية تمامًا إذ لا يمكن تحديد النسيان بعدد معين.
ثم إنّا نجد الزركشي والسيوطي يتوسعان في ذكر معاني الأحرف، فجعل الزركشي قول الطحاوي في إرتفاع الأحرف السبعة والعودة إلى حرف قولًا منفردًا،[3] فكيف يهمل ما هو أعظم من ذلك أثرًا كالرخصة الإلهية؟
الرد المفصل
لمعرفة أصل هذا القول، أي: القول الخامس عند الزركشي والتاسع عند السيوطي، علينا الرجوع إلى أصل النقل، فهذا الفصلان مبنيان على ما جاء في التمهيد لابن عبد البر فأغلب ما فيهما من كلامه ونقولاته لمن تأمل.[4]
وكان ابن عبد البر أول من نسب هذا القول إلى سفيان بن عيينة وابن وهب والطبري والطحاوي، ثم تبعه على ذلك الزركشي والسيوطي.
فهل يعتقد الكاتب حقًا أن الرخصة الإلهية ثابتة عن هؤلاء الأعلام؟ فإن كان ذلك فلماذا لم ينسب إليهم هذا القول كما نسبه للشافعي ويحيى بن سعيد القطان وأبي إسحاق القاضي وأبي عوانة؟ فأما سفيان وابن وهب، فلم يُعرف عنهما إلا كلام قليل في الباب، ويصعب معرفة مذهبهما. وأما الطبري، فلا شك في قوله بالقراءة بالتلقي، ويدل عليه ترجيحاته للقراءات، وقبوله لألفاظ مختلفة في موضع واحد، وبقوله: (أمر صلى الله عليه وسلم أن يُقرأ بالقراءتين كلتيهما). وأما الطحاوي فهو ما تشبث به الكاتب عندما وقع على بعض الألفاظ التي تُشعر بقوله بالقراءة بالمعنى، وقد تم الرد على جميع ذلك في مقالة أخرى، فعندما وجده الكاتب مذكورًا ضمن أحد الأقوال تسرع وزعم أن المقصود بهذا القول هو الرخصة الإلهية بعينها. ولكن عند الرجوع إلى أصل هذا القول يتبين المقصد من ذكر الطحاوي.
قام ابن عبد البر بذكر هؤلاء الأعلام الأربعة وبيّن المشترك بين أقوالهم، فروى بإسناده عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن اختلاف المدنيين والعراقيين هل تدخل في السبعة أحرف؟ فقال: (لا، وإنما السبعة الأحرف كقولهم هلم، أقبل، تعال، أي ذلك قلت أجزأك.)
قال أبو طاهر: وقاله ابن وهب.
ثم نقل شرح الأصبهاني المقرئ: (ومعنى قول سفيان هذا أن اختلاف العراقيين والمدنيين راجع إلى حرف واحد من الأحرف السبعة.)
قلت: فأين هذا من القراءة بالمعنى والرخصة الإلهية؟ أفيه ذكر نسيان الصحابة واجتهاداتهم في القراءة؟ بل ما كان جوابه إلا عن اختلاف المدنيين والعراقيين، وقوله إن السبعة: (كقولهم هلم، أقبل، تعال)، يقصد بذلك أن السبعة متقاربة المعنى. وشرح الأصبهاني هنا مهم، حيث نبه أن المقصود بذلك الكلمات المختلفة في المبنى المتقاربة في المعنى، فإن المصحف العثماني كتب بحرف من السبعة، فلم يستطع الناس أن يقرأوا ما خالف المبنى.
ثم قال ابن عبد البر: وبه قال محمد بن جرير الطبري.[5]
قلت: وهذا نجده صريحًا في مقدمة تفسيره بعد إقراره بأن الأحرف السبعة هي لغات،[6] إلا أن الذي عندنا اليوم هو حرف واحد فقط بعد جمع عثمان رضي الله عنه،[7] ولا يدخل فيه (اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة)،[8] وهو كقول القائل: (هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، وقصدي، ونحوي، وقربي، ونحو ذلك)،[9] فهذا قريب مما تقدم من كلام ابن عيينة حين تكلم عن اختلاف العراقيين والمدنيين، ولا علاقة له بالرخصة الإلهية.
ثم نقل كلام الطحاوي: (كانت هذه السبعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غيرها لأنهم كانوا أميين لا يكتبون إلا القليل منهم، فكان يشق على كل ذي لغة منهم أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متفقًا فكانوا كذلك حتى كثر من يكتب منهم وحتى عادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأوا بذلك على تحفظ ألفاظه فلم يسعهم حينئذ أن يقرأوا بخلافها وبان بما ذكرنا أن تلك السبعة الأحرف إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك ثم ارتفعت تلك الضرورة فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف وعاد ما يقرأ به إلى حرف واحد.)[10]
قلت: وهذا الكلام يشبه كلام الطبري في أصل الأحرف السبعة وأنها اللغات وأن الناس رجعوا إلى حرف واحد، ولهذا ذكره ابن عبد البر في الفصل، إلا أن تعريف الطحاوي أشمل كما بينا في مقالة أخرى.
ثم اختصر ابن عبد البر مقصده من ذكر هؤلاء الأعلام الأربعة – وإن لم نوافقه عليه – بقوله: (فهذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الأحاديث عند جمهور أهل الفقه والحديث، ومصحف عثمان رضي الله عنه الذي بأيدي الناس هو حرف واحد).[11]
قلت: فهذا هو العامل المشترك بين هذه الأقوال ولا علاقة لهذا بالقراءة بالمعنى أو التشهي أو النسيان أو الإجتهاد أو الرخصة الإلهية كما توصل إليه الكاتب.
خاتمة
وفي الختام، لا يحق للكاتب أن يدعي أن ابن كثير والزركشي والسيوطي وغيرهم ممن جمع تعريفات الأحرف السبعة أوردوا الرخصة الإلهية ضمن تعريفاتهم، وإقحام هذه النظرية في كلامهم وقائمة النظريات لا يدل إلا على الإفلاس المفرط لدى الكاتب، فهذا القول لم يعرف لا عند المتأخرين ولا عند المتقدمين من أهل السنة. وإنما سلف الكاتب هم الذين وصفهم ابن الأنباري بالزائغين الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لتجويزهم قراءة (الشكر للباري ملك المخلوقين) في الفاتحة.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر:
الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1432ه.
الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مؤسسة الرسالة / بيروت، ط1: 1429هـ.
الاستذكار، ابن عبد البر، دار الكتب العلمية / بيروت، ط2: 1423هـ.
البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المكتبة العصرية / بيروت، 1435هـ.
تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار، الطحاوي، دار بلنسية / الرياض، ط1: 1420هـ.
التمهيد لما في الموطأ من معاني، ابن عبد البر، دار الفكر / بيروت، ط1: 1423ه،.
تفسير الطبري، الطبري، دار الكتب العلمية / بيروت، ط1: 1412هـ.
[1] البرهان 1/158، الإتقان ص108
[2] البرهان 1/158
[3] البرهان 1/160
[4] التمهيد 4/281-286
[5] حكى مكي بن أبي طالب في الإبانة عن معاني القراءات ص152 عن الطبري ما يخالف ذلك.
[6] تفسير الطبري 1/43
[7] تفسير الطبري 1/48
[8] تفسير الطبري 1/56
[9] تفسير الطبري 1/48
[10] التمهيد 4/286
[11] الاستذكار 2/483