بسم الله الرحمن الرحيم

 

اطلعت على كلام صالح الراجحي فيما يتعلق بتجريد مصاحف عثمان رضي الله عنه من النقط ووجدت فيه قصورا في الفهم وقلة اطلاع. فهو ينكر أن الصحابة جردوا المصاحف من النقط، وأنهم لم يعرفوا التنقيط قبل كتابة المصحف أصلًا، وأنكر أن عثمان رضي الله عنه قصد جعل الرسم يحتمل عدة قراءات.

قال: (ولو كان يريد أن يثبت مصحفًا يحوي كلمات تحتمل قراءات متعددة ولم يبين بالضبط نوع تلك القراءات وليس في الرسم ما يحدد كيفية نطقها بوضوح فإنه بذلك لم يلغ الخلاف فكأنه لم يصنع شيئًا، وهذا بعيد جدًا.)[1]

قلت: هذا كلام غريب، فما الذي صنع عثمان في نظر الراجحي إذ قرأ الناس بقراءاتهم بعد أن كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف؟ هل فشلت اللجنة في مهمتها لتوحيد الناس حيث أنهم لم يفطنوا بأن خلو المصاحف من النقط قد يؤدي إلى الاختلاف؟ وهل يُعقل أن عثمان لم يكن يعرف أن رسمه يحتمل أوجها غير التي أرادها؟ وهل يخفى هذا عن عاقل؟!

قال حذيفة رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى![2]

فهل نجح عثمان رضي الله عنه فيما شرع إليه؟

قال علي رضي الله عنه: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل.[3]

فهل غفل علي رضي الله عنه عن اختلاف الناس في القراءة بعد جمع عثمان رضي الله عنه؟

قال الراجحي أن عثمان رضي الله عنه (لم يرد أن يختلف الناس في القراءة مذاهب شتى، وإن كان هذا حصل تلقائيًا حين كان رسم المصحف غير منقوط ولا مشكول لأن الكتابة حينذاك لم تكن تنقط أصلًا.)[4]

والرد على كلامه من وجهين:

 

الوجه الأول: معرفة الصحابة للنقط قبل زمن كتابة المصحف.

ويدل على ذلك صحيفة ابن حديد التي كُتبت سنة 22هـ التي فيها نقاط الإعجام في النون والجيم والخاء والذال والزاي والشين، وهي محفوظة في المتحف الوطني في النمسا.[5]

ويؤيده نقش زهير الموجود في مدائن صالح وقد كُتب في سنة 24.[6]

ويؤيده أيضًا التنقيط الموجود في النص السفلي من مصحف الـ(بالمبسست) بصنعاء، وهو أقدم من مصحف عثمان رضي الله عنه، حيث أنه يشتمل على أحرف مختلفة أخرى كحرف ابن مسعود وأُبي وغيرهما.[7]

يقول حفني ناصف: (إنا نجد للباء والتاء والثاء مع اختلافها في النطق صورة واحدة وكذلك الجيم والحاء والخاء وللدال والذال وهلم جرا ويبعد كل البعد أن تكون الحروف موضوعة في أول أمرها على هذا اللبس المنافي لحكمة الوضعين الذاهب بحسن الاختراع فأما أن يكون لكل حرف شكل مخالف لسائر الحروف ثم اتحدت الاشكال المتقاربة وصارت شكلا واحدًا بتساهل الكتّاب وطول الزمن. وأما أن يكون بعض الأشكال موضوعًا لعدة أحرف ووضع الإعجام معها لتمييزها بعضها عن بعض وقد ثبت مما نقلناه عن المؤرخين أن الروادف وهي أحرف (ث خ ذ ض ظ غ) لم يكن لها صورة في الخط الفينيقي الذي هو أساس الخط العربي فلا بد أن يكون واضع الحروف العربية أخذ لها صورة الباء والجيم والدال والصاد والطاء والعين ووضع لها النقط لتمييز المأخوذ عن المأخوذ منه.)[8]

فهذه الأمور كافية لإثبات وجود نقاط الإعجام في تلك الفترة وبذلك نستطيع أن نجزم بأن عثمان رضي الله عنه جرد المصاحف من النقط عمدا.

 

الوجه الثاني: وجود الاختلافات في المصاحف الموجهة إلى الأمصار.

والأمثلة على ذلك معروفة كـ(سارعوا) و(وسارعوا) و(ولا يخاف) و(فلا يخاف) وزيادة (من) في سورة التوبة وزيادة (هو) في سورة الحديد.

فيقول الراجحي متحيرًا: (هذه الزيادات لا يمكن الجزم بأنها مقصودة من أجل الاختلاف في القراءات، فإنه من المعلوم أن الوجوه المخالفة للرسم من القراءات أكثر بكثير من هذه الحروف المعدودة التي اختلف رسمها في المصاحف.)[9] وقال: (ومما يدل أيضًا على هذه الحروف التي زادت في بعض المصاحف العثمانية ليس الغرض منها اختلاف القراءة أنه قد كتبت كلمات في المصحف فيها زيادات حروف أو نقصها، وليس لها علاقة باختلاف القراءة، وقد تكتب الكلمة برسم معين ثم تكتب هي نفسها في مواضع آخر برسم مختلف. ومن الأمثلة على ذلك: في سورة النمل رقم (21) (لأاذبحنه) بزيادة الألف في حين أن كلمة (لأعذبنه) في الآية نفسها كتبت بدون ألف…)[10]

 قلت: ثم سرد أمثلة معروفة اصطلح الراسمون على رسمها بشكل تخالف قراءتها، ولا علاقة لها بما صنعه عثمان رضي الله عنه ولجنته.

فيسأل الراجحي: هل أراد عثمان عندما زاد كلمة (هو) في سورة الحديد في مصاحف الحجاز والشام أن تُقرأ أم لا؟ فإن لم يشأ ذلك فهي مصيبة إذ غفل عن مقصده قراء الحجاز والشام حينما قرأوا بها. وهذه ليست معضلة لكي يأتي الراجحي بهذا الكلام المتهافت، فالواقع أسهل من هذا بكثير وهو أن عثمان رضي الله عنه أراد حفظ بعض الاختلافات، وإن كان الأصل جمع الناس على رسم واحد.

ومن الملفت للنظر أن عثمان رضي الله عنه أرسل إلى الأمصار ما يوافق قراءتهم. قال المهدوي: (وإنما أقر عثمان، ومن اجتمع على رأيه من سلف الأمة، هذا الاختلاف في النسخ التي اكتتبت وبعثت إلى الأمصار، لعلمهم أن ذلك من جملة ما أُنزل عليه القرآن، فأُقر ليقرأه كل قوم على روايتهم.)[11]

وبهذا الرسم استطاع عثمان رضي الله عنه أن ينهي التنازع الذي حصل بين أهل الأمصار، إذ أنه أرسل إليهم مصاحف موثقة صدرت من لجنة يرأسها كاتب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه. فإذا اختلف اثنان فقرأ أحدهم (فتثبتوا) وقرأ الآخر (فتبينوا) رجعا إلى المصحف، فوجدوا الرسم يؤيد القراءتين، فينتهي النزاع. فليس الهدف من جمع الناس على رسم حرف، إلغاء جميع القراءات الأخرى، ولكن الهدف منه إنهاء النزاع بحصرها.

 

أقوال أهل العلم

وبقي هنا أمر واحد، وهو أن الراجحي نقل بعض النصوص من مجموعة من أهل العلم توهم بأنهم رأوا أن عثمان رضي الله عنه لم يرد حفظ الاختلافات.

فنقل مثلًا عن مكي رحمه الله قوله في الإبانة: (فلا بد أن يكون عثمان رضي الله عنه إنما أراد لفظًا واحدًا لكنا لا نعلم ذلك بعينه، فجاز لنا أن نقرأ بما صحت روايته مما يحتمله ذلك الخط لنتحرى مراد عثمان رضي الله عنه ومن تبعه من الصحابة وغيرهم. ولا شك أن ما زاد على لفظ واحد في كل حرف اختلف فيه ليس مما أراد عثمان، فالزيادة لابد أن تكون من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، فإن لم تكن كذلك وقد صح أن عثمان لم يردها كلها إذ كتب المصحف إنما أراد حرفًا واحدًا فهي إذا خارجة عن مراد عثمان وعن السبعة أحرف… وقد أجمع المسلمون على قبول هذه القراءات التي لا تخالف المصحف. ولو تركنا القراءة بما زاد على وجه واحد من الحروف لكان لقائل أن يقول: لعل الذي تركت هو الذي أراد عثمان، فلا بد أن يكون ذلك من السبعة أحرف التي نزل بها القرآن على ما قلنا.)

ثم قال: (وهذا النص من كتاب (الإبانة) للإمام مكي رحمه الله صريح في أن عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام إنما أرادوا لفظًا وقراءة واحدة بالحرف الذي نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.)[12]

قلت: وهذا الكلام لا يُفهم منه أن عثمان رضي الله عنه أراد مسح جميع القراءات إلا واحدة، وليس فيه إلا أنه أراد قراءة واحدة، ورسم المصحف بناء على تلك القراءة. ولمكي كلام غير هذا يدل على أن عثمان أراد جمع الناس على ما وافق رسم حرف قريش، فقال: (فلما كتب عثمان المصاحف ووجهها إلى الأمصار، وحملهم على ما فيها، وأمرهم بترك ما خالفها، قرأ كل مصر مصحفهم الذي وُجه إليهم على ما كانوا يقرؤون قبل وصول المصحف إليهم، مما يوافق خط المصحف الذي وُجه إليهم، وتركوا من قراءتهم التي كانوا عليها مما خالف خط المصحف.)[13]

وقال أيضًا: (وكان المصحف إذ كتبوه لم ينقطوه ولم يضبطوا إعرابه، فيمكن لأهل كل مصر أن يقرأوا الخط على قراءتهم التي كانوا عليها مما لا يخالف صورة الخط.)[14]

قلت: فلو قصد مكي أن يقول أن ما كان لعثمان رضي الله عنه أن ينقط ويضبط الإعراب لعدم اختراع ذلك في زمنه لصرح بذلك، فظاهر نصه يدل على أن ترك التنقيط كان بقصد إمكان تأويل النص.

وكان مكي يصحح قراءة ما اختلفت المصاحف فيه وينسب ذلك الاختلاف إلى عثمان رضي الله عنه، وهذا صريح في أنه لا يرى أن عثمان أراد مسح جميع القراءات الأخرى من الوجود.[15]

ثم نقل الراجحي من أبي شامة كلامه الآتي: (اختار الصحابة رضي الله عنهم الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته وترك الباقي للخوف من غائله، فالمهجور هو ما لم يثبت إنزاله، بل هو من الضرب المأذون فيه بحسب ما خف وجرى على ألسنتهم.)[16]

قلت: وهذا القول لأبي شامة جاء بعد قوله: (وما اختلفت فيه المصاحف حذفًا وإثباتًا، نحو (من تحتها) (هو الغني)، (فبما كسبت أيديكم) فمحمول على أنه نزل بالأمرين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته على الصورتين لشخصين أو في مجلسين، أو أعلم بهما شخصًا واحدًا وأمره بإثباتهما.)[17]

وهذا صريح بأن أبا شامة يرى أن عثمان رضي الله عنه لم يرد إلغاء جميع القراءات.

 

وفي الختام أود أن أنبه القارئ بأن موضوع جمع عثمان رضي الله عنه للمصحف لإنهاء النزاعات يشكل عائقًا للراجحي الذي يرى أن الأحرف السبعة هي مجرد رخصة للقراءة بالتشهي، وسأذكر ملاحظاتي بالنسبة لذلك في موضع آخر إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

المصادر:

الإبانة عن معاني القراءات، مكي بن أبي طالب، كتاب – ناشرون / بيروت، ط1: 1432هـ.

حياة اللغة العربية، حفني ناصف، مكتبة الثقافة الدينية / بور سعيد، ط1: 1423هـ.

صحيح البخاري، البخاري، دار السلام للنشر والتوزيع / الرياض، ط2: 1419هـ.

المحرر الوجيز، ابن عطية، ت: وليد الطبطبائي، مكتبة الإمام الذهبي / الكويت، 1413هـ.

المسائل الكبرى، صالح بن سليمان الراجحي، دار الصميعي / الرياض، ط1: 1443هـ.

المصاحف، ابن أبي داود، ت: محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر / بيروت، ط2: 1423هـ.

هجاء مصاحف الأمصار، المهدوي، ت: حاتم الضامن، دار ابن الجوزي / الدمام، ط1: 1430هـ.


 

[1]  المسائل الكبرى ص256.

[2]  صحيح البخاري ص894.

[3]  المصاحف 1/217.

[4] المسائل الكبرى ص257.

[5]  “PERF No. 558 – One of the Earliest Bilingual Papyrus from 22 AH / 643 CE.” Islamic Awareness. Nov. 2, 2000,www.islamic-awareness.org/history/islam/papyri/perf558.

[6] “The Inscription of Zuhayr.” Islamic Awareness. Jan 21, 2006. https://www.islamic-awareness.org/history/islam/inscriptions/kuficsaud.html

[7] Sadeghi and Goudarzi, Sana’a 1 and the Origins of the Quran. pp. 116-122.

[8]  حياة اللغة العربية ص88-89.

[9]  المسائل الكبرى ص263

[10]  المسائل الكبرى ص264.

[11]  هجاء مصاحف الأمصار 102-103.

[12]  المسائل الكبرى ص255.

[13]  الإبانة ص148.

[14]  الإبانة ص163.

[15]  الإبانة ص168.

[16]  المسائل الكبرى ص259.

[17]  المحرر الوجير ص324.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

You may use these HTML tags and attributes:

<a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>